المسجد الاقصى

كما هو ثابت و معلوم, يعد المسجد الأقصى والحداً من المساجد الثلاثة التي ارتبطت بعقيدة الاسلام, فالله سبحانه و تعالى هو الذي سماه بهذا الاسم, و هو – عز و جل – الذي ربط بين المسجد الأقصى في القدس الشريف و بين بيته الحرام في مكة المكرمة, و هو الذي باركه و بارك ما حوله, و خصه الله وحده بالبركة حوله من بين سائر المساجد المنتشرة في أرجاء المعمورة, لقوله تعالى: ” سُبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آيتنا إنه هو السميع البصير ” (الإسراء: 1).

و قد أخبر الرسول (صلى الله عليه و سلم) أن المسجد الاقصى هو واحد من المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال الا اليها, إضافة الى المسجد الحرام في مكة المكرمة, و المسجد النبوي في المدينة المنورة.

و المقصود بالمسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن الكريم, لا ينحصر في الجزء المسقوف الذي يقع في الجهة الجنوبية من باحاته, رغم أن المسلمين اعتادوا في هذا العصر على تسميته بذلك, كما أنه لا ينحصر بالمبنى الجميل الموجود في وسط الساحة والمعروف (بقبة الصخرة) فحسب, بل أن جميع ما يوجد داخل سور المسجد الأقصى من مساجد و مدارس و مآذن و أسبلة وقباب ومحاريب و مصاطب ومنابر وأروقة وأماكن وضوء و ساحات وحدائق وآبار وأشجار ومرافق تشكل بمجموعها المسجد الأقصى المبارك الذي تبلغ مساحته حوالي 144,000م2 “مائة وأربعة وأربعين ألف مترٍ مربع” و عليه فان مبنى الجامع الأقصى الواقع في الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى, ومبنى قبة الصخرة الواقع في الوسط منه هما جزءان من المسجد الأقصى المبارك. مع التأكيد على أن كل المساحة التي تم الحديث عنها بكل ما فيها من معالم, هي التي يتشكل منها معنى المسجد الأقصى و مفهومه, و بناء عليه نجد أن المسلمين يصلون في أي مكان داخل سور الأقصى دون حرج, إذ لا فرق في الأجر و الثواب, فكلها أجزاء من المسجد الأقصى المبارك, علماً أن مكان الإمام وبداية الصفوف تبدأ من الجهة الجنوبية, و هي اتجاه القبلة, بمعنى أن المقصود بالمسجد ان كل الأرض داخل السور و ليس المباني المقامة عليه فقط.

لقد كان المسجد الأقصى قبلة المسلمين في الصلاة في بدايات الدعوة الإسلامية, فقد ذكر الإمام عن أحمد ابن عباس (رضي الله عنه), “أن النبي (صلى الله عليه و سلم) كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس, و الكعبة بين يديه”. كما أخرج الطبري عن طريق ابن جريح قال: “صلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أول ما صلى الى الكعبة, ثم صرف الى بيت المقدس و هو بمكة, فصلى ثلاث حجج, ثم هاجر فصلى اليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهراً ثم وجهه الله الى الكعبة”, وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِ وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره  ” (البقرة:144)

و يُعد المسجد الأقصى ثاني أقدم مسجد وضع للناس فــي الأرض بعـــد المسجد الحرام, و بينهما أربعون سنة, كما ورد في حديث أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم). عن أبي ذر قال: “يا رسول الله, أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة, و أينما أدركتك الصلاة فصل, فهو مسجد”.

و المتتبع لتاريخ الأقصى و فضائله يلاحظ تكرار العلاقة التي تربطه بالمسجد الحرام في القبلة التي صلى اليها المسلمون, كما ارتبط معه في معجزة الاسراء والمعراج, وقبل ذلك في قدم البناء وتاريخه, ثم في التسمية إذ أن الله سبحانه و تعالى هو الذي سمى المسجدين باسميهما المعروفين.

ويؤكد المؤرخون و الأثريون خلو ساحة المسجد الأقصى من الأبنية منذ هدم المدينة على يد تيطس سنة 70م و حتى بداية العهد الإسلامي. وتُعد الخريطة الفسيفسائية التي تم اكتشافها في أحد الكنائس القديمة في مدينة أدبا في الأردن, و التي يرجع تاريخها الى القرن السادس للميلاد, إحدى أهم الوثائق المصورة التي تؤكد خلة ساحات المسجد الأقصى ومنطقته من أية أبنية أو منشآت عمرانية في تلك الفترة. و هذا ينفي بصورة قاطعة المزاعم التي تدعي أن المسجد بني على أنقاض كنيسة للنصارى كان يعتقد بعضهم أنها موجودة أسفل المسجد الأقصى تعرف بكنيسة “النيا” أي الكنيسة الجديدة التي بناها جوستنيان, و قد تم اكتشاف موقعها و بعض من آثارها قرب باب النبي داوود في سور القدس بعد سنة 1967م, أما الحديث عن كنيس لليهود فلم يرد إطلاقا في أي مصدر سوى التوراة.

ثم أن مصادر التاريخ الاسلامي تذكر أن كعب الاخبار, وهو من الصحابة, اقترح على عمر بن الخطاب أن يجعل المحراب خلف الصخرة من الجهة الشمالية, ليجمع بذلك بين الصخرة و الكعبة, إلا أن الخليفة عمر اختار أن يجعله في صدر الساحة من الجهة الجنوبية, وهو المكان الذي يوجد فيه محراب الجامع الأقصى اليوم, و هذه القصة اشارة الى أن الساحة التي يتكون منها المسجد الأقصى, كانت فارغة من المباني و أن الخليفة عمر كان مخيراً في أن يجعل مبنى المسجد في أية بقعة منها.

وكان هدف الخليفة عمر من اقامة المسجد تثبيت العقيدة الاسلامية في نفوس المسلمين في القدس, و الراجح أن المسجد الذي بناه الخليفة عمر كان بوسائل و مواد بسيطة تتلاءم مع المستوى العمراني الذي كان سائداً آنذاك في بناء المساجد و تشييدها, لذا لم يعمر طويلاً بعد تحرير القدس مما حدا بالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان, كما يذكر بعض المؤرخين, إلى إعادة بناء هذا المسجد من جديد, حيث بدأ البناء أولاً في مركز المسجد الأقصى, فبنى القبة الجميلة لتكون تاجاً فوق الصخرة المباركة, و لتكون أيضاُ قبة مركزية للمسجد الأقصى الذي تتوزع أجزائه على الفضاء الواسع داخل السور.

بدأ البناء بعد استلامه زمام الخلافة بسنة واحدة, سنة 66هـــ الموافق لسنة 685م, ليكتمل سنة 72هـــ الموافق لسنة 691م, و هناك اختلاف بين المؤرخين حول السنة التي بدأوا انتهى فيها بناء القبة, فمنهم من يرى أن بناء القبة بدأ سنة 86هــــ وانتهى سنة 92هــــ, وذلك في عهد الوليد بن عبد الملك و ليس في عهد أبيه , لكن المرجح أن ذلك قد تم في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان و ليس في عهد ابنه الوليد. و تذكر المصادر التاريخية أن هذا البناء هو ثمرة خراج مصر لسبع سنين, وأن الخليفة قد أوكل مهمة إنجاز هذا المشروع العمراني و الحضاري الكبير إلى أحد علماء الأمة وساستها الأذكياء, وهو رجاء بن حيوة الكندي, الذي استعان بدوره بأحد أبناء بيسان المبدعين, وهو يزيد بن سلام وولديه.. ولم يستطع المعماريون المعاصرون من عرب و أجانب أن يكتشفوا الأساس الهندسي الذي بنيت عليه القبة الجميلة, ومازال المبنى يخفي تحت قبته الكثير من الأسرار العمرانية التي أبدعتها الحضارة الإسلامية في مراحلها تلك. و رغم أن هذا البناء ليس هو الأكبر من بين الأبنية والمعالم التي ورثتها البشرية من إبداعات أسلافها, إذ أن قُطر القبة من الداخل عشرون متراً و ثلاثون سنتمتراً, وارتفاعها عشرون متراً وثمانية وأربعون سنتمتراً, فإن المختصين يجمعون على أن قبة الصخرة هي الأجمل في العالم.

 

إن مبنى قبة الصخرة القائم في قلب المسجد الأقصى اليوم هو من أقدم المباني الإسلامية الموجودة, فهو البناء الأول الذي شيد في القرن السابع للميلاد, ولم يتغير منه سوى الشرة الخارجية المكونة من الفسيفساء أو الرخام أو القيشاني, أما الجدران و القواعد فبقيت على حالها.

إن المتأمل في مبنى القبة يستطيع أن يقرأ فيه الكثير من الأسرار و المعاني التي لا يعثر عليها في المعاجم و الكتب و المؤلفات. وما كان بالإمكان فك هذه الرموز بعيداً عن الوعاء الحضاري لهذه التحفة العمرانية الاسلامية, وقد لا يكون من المبالغة القول: إن هذا المبنى ما هو الا مجسد قرآني من مبتدئه الى منتهاه, يرى المتأمل فيه العديد من الآيات مصورة أما عينيه و يتميز بناء قبة الصخرة بشكله الداخلي قائم على أربع دعائم و ثمانية أعمدة, والخارجي قائم على ثماني دعامات وستة عشر عموداً تحمل عليها رقبة القبة الذهبية, وهناك من يرى أن هذا التصميم القوي المبدع مستوحى من قوله تعالى: ” و يحمل عرش ربك فوقهم يومئِذٍ ثمانية ” (الحاقة: 17)

و هناك أعمدة رخامية صغيرة في الصف الخارجي يبلغ عددها اثني عشر عموداً. أما النوافذ المزخرفة في جنبات القبة فعددها ست و خمسون نافذة, أضيف لها لاحقاً نافذتان في العهد العثماني. والأقواس المنتشرة في أرجاء المبنى من الدخل يبلغ عددها أربعة وعشرون قوساً, كما يوجد على جدران و أعمدة المبنى لوحات رخامية جميلة, ترصع جنبات هذا المبنى العظيم ويبلغ عددها تسعاً وتسعين لوحة. إن من يدخل (قبة الصخرة) من باب الجنة و هو الباب الشمالي, يشاهد سبعة محاريب, و كأنها تقف صفاً بين يدي الله.

كما تزين جدرانها صور و أشجار و نباتات تم اختيارها هي الأخرى من بين ما جاء ذكره في القرآن الكريم, حيث نجد من كل زوج اثنين, وهذا مستوحى من قوله تعالى: ” ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ” (الرعد: 3).

أما الزخارف النحاسية و الذهبية الأخرى التي استعملت في تزيين الجدران من الداخل, فهي إما آيات قرآنية, كآية الكرسي التي تشاهد في أعلى القبة, وإما كتابة تاريخية تعود الى عهد القائم العظيم صلاح الدين الأيوبي.

ولا شك في أن مبنى قبة الصخرة الجميل قد أضفى بضخامته و روعته وتنافسه مزيداً من الهيبة والجلال على هذا المكان الطاهر. بيد أن فتنة الجمال العمراني لا يجوز ان تُنسي المرء الحقيقة الكبرى في هذا المقام, وهي أن القداسة للمكان لا للأبنية, و أن الأبنية الموجودة في الساحة كلها بما فيها القبة تستمد قيمتها من البقعة المباركة, ولولا هذا المكان الذي يضم قلبه الصخرة, التي منحت لهذا المبنى اسمه ة مكانته (قبة الصخرة) ما بنيت هذه القبة من الأساس, ولما حظيت بهذا الاهتمام في الحاضر و الماضي.

و معلوم أن لصخرة بيت المقدس مكانة في تاريخ المسلمين, فهي مركز المسجد الأقصى المبارك, وهي بنص أحاديث نبوية أرض المحشر و المنشر فهذه الصخرة ستنبسط و ستتسع و ستكون محشر الناس من آدم الى قيام الساعة و سينشرون منها الى السماء, وهذا يعني أن هذه الصخرة ستكون هي المحطة الأخيرة في علاقة الانسان بالأرض, كما يعني أنها ستكون بوابة السماء. وقد شهدت هذه البقعة معجزات دينية تؤكد هذه المعاني و تزيد في توضيحها, أهمها معجزة الاسراء و المعراج, فمن على هذه الصخرة كما هو مرجح, عرج بالرسول محمد (صلى الله عليه و سلم) إلى السموات العُلا.

والزائر والمشاهد لهذه الصخرة يلاحظ أنها لا تختلف كثيراً عن صخرة بيت المقدس في شورتها و هيئتها و مكوناتها, و لكنها تختلف حتما في مكانتها و تاريخها, فطولها لا يتجاوز ثمانية عشر متراً, وعرضها حوالي أربعة عشر متراً, وتوسطها فتحة اسطوانية, وقد نسج الخيال البشري منها العديد من القصص و الحكايات, وحقيقة الأمر أنها وجدت لتسهل العلاقة ببئر موجودة في الكهف تحت الصخرة, تسمى بئر الأرواح, و هي بئر روحية و ليست بئر ماء, وبئر الأرواح له علاقة بالمحشر و المنشر على الأغلب وهو إسلامي النشأة.

أما المغارة فيصلها الزائر من الجهة الجنوبية – وهي جهة القبلة – بواسطة سلم يتكون من ستة عشرة درجة, وهي مغارة صغيرة وغير متناسقة الأطوال و الارتفاعات لا يتجاوز اتساعها في أحسن الأحوال ثلاثة أمتار, ثم تنحدر جوانبها في ارتفاعات مختلفة لتتصل بالأرض, وهذا ينفي المزاعم بأنها معلقة في الهواء. وأما من يشير الى أن هذه الصخرة بقيت معلقة حتى نهاية أواخر القرن الخامس الهجري حيث تم وصلها بالبناء ليستتر أمرها عن أعين الناس فهذه من الأساطير التي لا يقبلها العقل البشري, ويلاحظ الزائر وجود محرابين فقط على جنبات الكهف, وهي تنسب الى عدد من الأنبياء عليهم السلام.

و كان مركز نزن للدراسات القرآنية قد توصل في دراسة للباحث بسام جرار قام بها لموسوعة القدس والمسجد الأقصى المبارك في مطلع الألفية الثالثة, تحت عنوان: “صخرة بيت المقدس و أصحاب الكهف” , إلى أن هذه المغارة هي الكهف الذي اوى اليه الفتية الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف, مقدماً الكثير من الأدلة و البراهين و المنشورة في  “موسوعة القدس والمسجد الأقصى المبارك”/ المجلد الأول, ومن العجائب أيضاً أن باب هذه المغارة الذي يقع في الجهة الجنوبية, يبن باستخدام البوصلة أنه يقابل الكعبة المشرفة بصورة دقيق جداً. لكن ما توصل اليه الباحث جرار لم يثبت إطلاقاً, إذ أن دراسات تاريخية وأثرية قد ذكرت أن مَن تم ذكرهم في سورة الكهف قد آووا إلى مغارة تقع في خربة الرجيب طريق عمّان سحاب, وثمة إشارات في مصادر أخرى إلى وجود أصحاب الكهف في أماكن أخرى.

وإذا كانت قبة الصخرة المشرفة دُرَة المسجد الاقصى, وهي أجمل ما فيه من أبنية, فإن مرافق الأقصى و أبنيته الأخرى لا تقل أهمية ولا قداسة عن هذا المبنى الجميل, وقد شهد بهذه الحقيقة علماء أجلاء منذ مئات السنين. فهذا ياقوت الحموي يقول: إن من أعظم محاسن الأقصى أنه إذا جلس إنسان فيه في أي موضع منه يرى أن ذلك الموضع هو أحسن المواضع و أرحها, ذلك أن الله نظر اليه بعين الجمال, ونظر الى المسجد الحرام بعين الجلال.

و لكن كلام الحموي عن الأقصى لا يجوز أن يُنسي المسيحيين و المسلمين على امتداد العالم و الإنسانية الواقع الاليم الذي يعيشه المسجد اليوم, فالأقصى يوشك أن يفقد وحدته في هذا العصر, فرغم أن وسائل الاعلام المرئية قد نجحت في نقل العديد من الصور الفوتوغرافية للأقصى, الا أن المعنى الحقيقي لهذا المسجد قد تشوش في أذهان معظم الناس حتى المثقفين و المتعلمين, فنجدهم في كثير من الأحيان ينتقدون تركيز وسائل الاعلام على نقل صورة قبة الصخرة على سبل المثال ويقولون: إن التركيز يجي أن يكون على صورة المسجد الاقصى, ومثل هذا الحديث يوحي بأن هناك تفريقاً بين مبنى القبة و مبنى المسجد في ذهنية الكثيرين, وكأنهما شيئا منفصلان عن بعضهما البعض, أو كأن هناك من يريد أن يحل أحدهما محل الآخر, وبالتالي فإن معظم الناس لا يقيمون وزناً للساحات التي تفتل بينهما إلا بقدر قربها أو بعدها عن هذين المبنيين. والحقيقة أن هذين المبنيين, مبنى الجامع الأقصى ومبنى قبة الصخرة ما هما الا جزاءان من المسجد الأقصى. ولا شك في أن مبنى القبة يظل المبنى الأجمل داخل المسجد الأقصى. و هذا الجمال و الفن المعماري, و إن كان يشكل قيمة فنية و عمرانية, فإنه ليس له قيمة عقدية تزيد من قداسة المكان الذي يقوم فوقه. أما مبنى الجامع الأقصى “المسجد المسقوف” فليس له هو الآخر من فضل على غيره إلا في كونه يقع في صدر المسجد الأقصى من الجهة الجنوبية, فهو بناء مسقوف يُظل المصلين من عوارض الطبيعة المتقلبة, ولأنه مسقوف جُعل فيه المنبر و فُرش بالسجاد, ومن داخله يرفع الأذان, وفيه تقام الصلاة. وكثيراً ما يضيق بالمصلين فترى الصفوف قد انتشرت في الساحات من حولها في باقي المصليات, وكأن السور من الناحية العمرانية هو الذي يشكل جدرانه, وهذه هي الحقيقة فيما يتعلق بالمعنى الكامل للمسجد الأقصى.

ولكن يبقى السؤال الكبير مطروحاً: لماذا اختلط معنى المسجد الأقصى في أذهان الناس في هذا العصر؟ ولماذا تقلص هذا المعنى لينحصر في مبنى المسجد المسقوف (القبلي) الواقع في الجهة الجنوبية, أو في مبنى القبة الواقعة في مركز المسجد. هذه مشكلة قديمة قد عَرّج عليها مجير الدين الحنبلي حينما سمى المسجد المسقوف بالجامع الأقصى لأن خطبة الجمعة تقام فيه. وتسمية المسجد القبلي هي تسمية حديثة قد تعني أن هناك مسجداً شمالياً, لذا فيحسن أن نطلق عليه الجامع الأقصى و هو الذي يفضله الباحث الدكتور يوسف النتشة.

ويعيد الباحثون من ذوي الاختصاص سبب الاختلاط لمعنى المسجد الأقصى إلى ثلاثة أسباب رئيسية هي:

الأول: سياسي ويتمثل في وقوع المسجد الأقصى و القدس تحت الاحتلال, وبالتالي عزل المسلمين عن التواصل معه, مما أضعف الصلة به وأصبح الحديث عنه يشبه الحديث عن الغيبيات.

الثاني: تشويه سلطات الاحتلال الإسرائيلية للمعلومات و الحقائق المتعلقة بالمسجد الأقصى و بالقدس و فلسطين عموماً, إذ نجد ان معظم المعلومات المتداولة عن هذا المسجد مجرد معلومات عامة مستندة في معظمها إلى الخرافات و الإسرائيليات.

الثالث: وجود مساحات فارغة واسعة داخل هذا المسجد و مساحات أخرى مزروعة بأشجار الزيتون وغيرها, فهذه المساحات الواسعة التي تتخلل ساحات الأقصى وتقصل بين مبانيه, إضافة الى انتشار مبانٍ أخرى صغيرة على شكل قباب وخلوات وما شابه, كل ذلك ساعد على تشتيت معنى الأقصى في أذهان الناس. والمشكلة الخطيرة المترتبة على ذلك تكمن في استغلال سلطات الاحتلال الاسرائيلية لهذا الواقع و محاولاتها المستمرة للسيطرة على أجزاء من المسجد الأقصى لبناء معبد يهودي فيها, سواء في التسويات الأرضية, أو في الساحات العلوية. وتبدأ حدود المسجد الأقصى بمجرد تخطي عتبة أي باب من الأبواب الموجودة في السور, وهذا ما يجب أن يتم تثبيته في العقول فعناصر المسجد المختلفة تزيد من إثراء مفهوم المسجد.

   فالمسجد الأقصى بمفهومه القرآني يبدأ من الجهة الشمالية من باب الأُسود والذي يعرف بباب الأسباط, حيث تقع في الجهة الشرقية من هذا السور مئذنة الأسباط, وهي نفسها المئذنة الصلاحية, وعند ملتقى الواجهة الشمالية بالواجهة الغربية من هذا السور تقع أشهر مآذن المسجد الأقصى و أجملها, وهي مئذنة الغوانمة. أما من الجهة الغربية فيمتد السور جنوبا إلى حائط البراق الذي استولى عليه اليهود سنة 1967م, وحولوه بقوة الاحتلال إلى “حائط للمبكى” يمارسون أمامه طقوسهم الدينية, بعد هدم حي المغاربة الوقفي الإسلامي وهو فعلياً جزء من الحائط الغربي للمسجد الأقصى.

   و يوجد في السور الغربي مئذنتان من مآذن المسجد الأقصى الأربع, هما مئذنة السلسلة و مئذنة المغاربة, أو المئذنة الفخرية, ومما تجدر الاشارة اليه أن تاريخ هذه المئذنة يرجع الى عصور متأخرة, مبنية في الواقع نفسها التي كانت عليها في عهد عبد الملك بن مروان, و بالتالي فإن عددها و مواقعها بقيت على حالها منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.

   أما من الجهة الجنوبية فيتحد جدار الأقصى الجنوبي بسور مدينة القدس. وهو اليوم جدار مغلق يمتد على طول الجهة الجنوبية للأقصى. و كان في السور الجنوبي باب يتصل بالمباني و القصور الأموية التي كانت ملاصقة للمسجد ولم يبق منها اليوم إلا بقايا أطلا و آثار , أزالتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

ومن الشرق يمتد سور المسجد الأقصى الذي يمثل بدوره حدود مدينة القدس القديمة من الجهة الشرقية إلى أن يلتقي مع باب الأسود (الأسباط) في الجهة الشمالية. ويتخلل هذا الجزء من السور أبواب مغلقة, وهي باب البراق أو باب الجنائز, وهو باب صغير مغلق يقع في الجهة الجنوبية, وسمي بباب الجنائز لأنه متصل بالمقبرة خارج السور, حيث كان المسلمون يستخدمونه في إخراج الجنائز إلى المقبرة بعد الصلاة عليها. وفي منتصفه تقريباً يقع باب كبير مغلق وهو الآخر, يتكون في حقيقته من بابين, باب الرحمة وباب التوبة, والمعروف كذلك بالباب الذهبي, الذي استخدم سابقاً مركزاً لتحفيظ القرآن الكريم و تعليم الإسلام للأطفال.

ويشبه سور الأقصى الشرقي سور الأقصى الجنوبي كونه خالياً من المآذن و الأبواب المفتوحة, التي تتجمع كلها فوق السور الشمالي والغربي للمسجد, فبالإضافة الى المآذن الأربع المشار اليها آنفاً, يقع في هذين السورين جميع الأبواب المفتوحة للمسجد الأقصى وعددها أحد عشر باباً, وهي على التوالي: باب الأُسود (الأسباط), باب حطة, باب شرف الأنبياء (ويعرف أيضاً بباب العتم, وباب الدوادارية نسبة الى خانقاه بنيت إلى جانبه), وتقع هذه الأبواب الثلاثة في الجهة الشمالية من السور.

أما الجهة الغربية فيقع في شمالها باب الغوانمة, وهو الذي كان يعرف قديماً بباب الخليل, وباب الناظر, و يعرف أيضاً بباب المجلس أو الحبس, وباب الحديد, وباب القطانين, وباب المتوضأ أو المطهرة, وباب السلسلة وباب السكينة, وهما بابان متلاصقان ويشكلان أهم أبواب المسجد على الإطلاق لاتصالهما بمعظم أسواق القدس و شوارعها, وباب المغاربة “باب النبي” الذي يقع أسفل باب المغاربة, وهو المكان الذي يعتقد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل منه ليلة الاسراء و المعراج. وتشكل المساحة المحصورة أمام هذه الأبواب وداخل هذا السور سدس مساحة القدس القديمة.

ويرجع سبب انحصار المآذن و الأبواب في الجهتين الشمالية و الغربية من سور المسجد الأقصى إلى تركز سكان القدس في هاتين الجهتين وإلى طوبوغرافية المنطقة خاصة الجنوبية و الشرقية. ولا يخفى على أحد الدور الذي لعبه هذا السور في حماية مساحة المسجد الاقصى من التآكل و التناقص بفعل الاكتظاظ العمراني الذي يزحم هذه المدينة على مدار تاريخها الطويل.

ومن المتفق عليه بين علماء الأمة منذ بداية الدعوة الإسلامية إلى يومنا هذا, أن الصلاة في أي بقعة من هذه المساحة المحصورة داخل السور هي صلاة في المسجد الأقصى, وهي تتساوى في الأجر و الثواب عند الله تعالى, وقد أخرج الطبراني و البزار عن أبي الدرداء أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: “الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة, والصلاة بمسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة”. وقد روى البهيقي عن جابر حديثاً مشابهاً يؤكد أن الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة فيما سواه غير الحرمين الشريفين.

أما المبنى الذي يتوسط القسم الجنوبي من المسجد الاقصى, ويعرف عند الناس باسم: الجامع الأقصى, فهو في حقيقته جزء من المسجد الأقصى وليس المسجد الاقصى كله, ولا يتميز عن باقي الأجزاء الأخرى إلا في كونه يحتل صدارة المسجد, وفي أنه بناء مسقوف يُظل المصلين من الحر و البرد, فكان لهذا السبب المكان الأنسب لنصب منبر نور الدين زنكي رحمه الله. ويعتقد أن الجامع الأقصى اليوم يقوم جزء كبير منه في نفس الموقع الذي اختاره الخليفة عمر ابن الخطاب لبناء المسجد بعد تحرير مدينة القدس من الاحتلال الروماني, والراجح أنه كان بناءً بسيطاً يتسع لثلاثة آلاف مصلٍ, ولكنه لم يعمر أكثر من سبعين سنة, إذ بُدِئَ في إعادة إعمارهن جديد بعد إعمار قبة الصخرة.

و تذكر موسوعة القدس والمسجد الأقصى المبارك أن عملية الإعمار في هذا المبنى بدأت سنة 86هـــ وانتهت سنة 96هـــ, والراجح أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان هو الذي بدأ هذا المشروع, وأن ابنه الوليد هو الذي أتم القسم الأكبر منه.

وتشير المصادر التاريخية الى أن هذا المبنى قد تعرض للهدم و الدمار مرات عديدة عبر تاريخه الطويل. ويرجع المختصون المعماريون ذلك إلى عدم ارتكاز أساساته الى الصخر الطبيعي, وعدم وجود دعائم وعقود تحته لتدعمه بدل الصخر الطبيعي, وكذلك بسبب موقعه في أقصى الجهة الجنوبية, ووجوده فوق حافة منحدر حاد لم يساعده كثيراً في مقاومته عوارض الزمن.

وفي سنة 130هــ الموافق 746م, وبعد أقل من خمسين عاماً على بناء المسجد المسقوف “الجامع الأقصى”, ضرب القدس زلزال قوي أدى إلى انهدام الأجزاء الشرقية و الغربية منه, وكان ذلك في أواخر العهد الأموي. وقد قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بإعادة بنائه وترميمه سنة 141هـــ الموافق سنة 757م, مستعينا بصفائح الذهب التي كانت ترصع أبوابه. و قد غير المنصور في قياسات هذا المبنى فأنقص من طوله وزاد في عرضه.

ولكن بناء المنصور لم يعمر هو الآخر أكثر من سبع عشرة سنة, إذ ضرب زلزال آخر المسجد المسقوف “الجامع الأقصى” سنة 158هـــ, الموافق لسنة 774م, فجدد إعماره مرة أخرى بأمر من الخليفة المهدي سنة 163هـــ, الموافق لسنة 779م, وهو ما كلف أموالاً طائلة, ولكن بناء المهدي لم يعمر هو الآخر طويلاً, إذ انهدم البناء بفعل زلزال آخر ضرب القدس وما حولها. ولم يصمد هذا الإعمار أيضاً أكثر من مائتي سنة فقد تعرض المسجد الأقصى بعد ذلك الى زلزال قوي أدى إلى تدميره بصورة شبه كاملة, و كان ذلك سنة 425هــــ, الموافق لسنة 1033م, فعمره الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله, فكان أن ضيقه من الشرق والغرب, بحذف أربعة أروقة من كل جانب. ويرجع البعض هذا التقليص إلى العصر العباسي على الأغلب. أما الأبواب السبعة التي في شمال المسجد اليوم فهي من بناء الظاهر, بل إن القسم الأكبر من بناء المسجد الأقصى الحالي يرجع الى الظاهر الفاطمي, مضافاً إليه ترميمات الفاتح صلاح الدين الأيوبي و التعميرات التي جرت في القرن العشرين للميلاد.

و المتأمل في التفاصيل العمرانية لهذا المبنى يستطيع أن يقف على العديد من البصمات التي ترمز لمراحل تاريخية مختلفة, فهو بحق يجسد شواهد من عصور تاريخية مختلفة للعمارة الإسلامية الأصلية.

ومن اللفت للنظر أن قبة الصخرة لم تنهدم بفعل هذه الزلازل الكثيرة التي ضربت القدس وما حولها والتي كانت تطيح في كل مرة بمبنى الجامع الأقصى, نظراً لصلابة أساسات الأعمدة القائمة التي تحمل قبة الصخرة.

ويفصل مبنى القبة عن مبنى الجامع الأقصى (المسجد المسقوف) القائم في صدر الجهة الجنوبية مسافة مائة متر تقريباً, وتبلغ مساحة المسجد المسقوف حوالي (أربعة آلاف وأربعمائة متر مربع), وطول المبنى ثمانون متراً, وعرضه خمسة و خمسون متراً يتخلله ثلاثة وخمسون عموداً,يصل ارتفاع كل واحد منهاإلى خمسة أمتار. كما يضم تسعاً وأربعين سارية “دعامة”. أما هذه القبة فترتفع سبعة عشر متراً, وتضم مائة وسبعاً وثلاثين نافذة.

ويقع في الجهة الشرقية الجنوبية من الجامع الأقصى مسجد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بمدخلين: الأول من داخل الأقصى, والثاني من الساحة الشرقية أمام المسججد, ومسجد عمر عبارة عن رواق واحد في عرضه وأربعة أروقة متجاورة في طوله, وقد سمي كذلك تيمناً لأن عمر بن الخطاب هو محرر بيت المقدس و لأنه ( رضي الله عنه) هو أول بانٍ للأقصى.

وترجح المصادر أن تاريخ هذا البناء القائم حالياً يعود إلى العهد العثماني الاول, وقد تم تقسيمه في العصر الحديث إلى قسمين: القسم الغربي وهو الصلاة, والقسم الشرقي يستخدم في أوقات الطوارئ عيادة صحية تابعة للمسجد الأقصى المبارك.

وإلى الشمال من مسجد عمر يوجد مكان آخر يقال له مقام الأربعين. وهو إيوان واسع له مدخلان, أحدهما عن طريق مسجد عمر وثانيهما عن طريق فتحة واسعة تتصل بالمسجد على طول جانبها الغربي. وتذكر بعض الروايات أن تسمية هذا المقام بمقام الأربعين نسبة الى مدفن يضم أربعين من الصالحين, وقيل من الأنبياء, وربما نسبة للمعتكفين فيه أربعين يوماً, وليس هناك دليل شرعي أو تاريخي على صحة هذا أو ذاك, ويلاحظ الزائر وجود كتابة قرآنية قديمة على الججدران حيث تم ترميمها.

وفي المكان الذي يقوم فيه منبر المسجد اليوم كان يتربع منبر صلاح الدين الأيوبي, الذي صنعه المجاهد الكبير نور الدين زنكي في مدينة حلب خصيصاً لهذا المسجد المبارك, قبل تحرير القدس و المسجد الأقصى بتسع عشرة سنة, وكان بشهادة المختصين, تحفة عظيمة لا تقدر بثمن, صنع من خشب الأرزالمرصع بالعاج و الأبنوس, وقد أوصى نور الدين زنكي بنقله الى المسجد الأقصى بعد تحرير القدس.

فكان هذا المنبر كما أراد صانعوه, وكما فهمه رواد هذا المسجد,يجسد إرادة الامة في مقاومة المحتلين, ويمثل رمزاً حياً لمراحل النصر و العزة في تاريخ هذه الأمة, وقد فقد الجامع الأقصى هذا المنبر الذي ظل لقرون ططويلةرمز عزته و منعته في أعقاب سقوط القدس و فقدان الأمة لأولى القبلتين و ثالث الحرمين الشريفين سنة 1967م, فقد تعرض هذا الجامع لمؤامرة كبيرة و خطيرة, استهدفت احراقه و تدميره في 21/8/1968م ولكنها فشلت,وتكررت المؤامرة فاستطاع أحد اليهود المتطرفين و يدعى (دينيس مايكل روهان), تنفيذ حريق الأقصى في 21/8/1969م, ولم تكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعيدة عن هذه المؤامرة, حيث قطعت المياه عن منطقة الأقصى و منعت سيارات الطفاء من الوصول الى داخل المسجد, ولولا ارادة الله تعالىواستكاتة ابناء القدس وفلسطين في الدفاع عن هذا المكان الطاهر و إطفائاها النيران بأنفسهم و بثيابهم وما وصلت اليه أيديهم, لحلت بالأقصى كارثة كبيرة لا يعلم مداها الا الله.

وانطفأت المؤامرة دون أن تتمكن من تدمير الجامع الأقصى, ولكنها طالت منبر صلاح الدين, وقسماً مبيراً من الجهة الجنوبية لهذا المسجد بما يحويه من كنوز كانت رمزاً لعزة هذا المسجد ولم يبق منه إلا الحطام والركام وبلغت المساحة المدمرة حوالي (1500) متراً مربعاً أي ما يعادل ثلث مساحة الجامع الأقصى, ولكن لعل هذه الجريمة النكراء تبقى في الذاكرة لتستثير أبناء هذه الأمة فيدفعها لتخليص قبلتها الأولى من مثل هذا المصير الأسود.

وما يجب أن يعرفه المسلمون في كل مكان أن المسجد الأقصى ليس هو فقط المساحة المشاهدة حول قبة الصخرة المحصورة داخل السور, وانما هناك مساحات أخرى تقع تحت القسم الجنوبي من ساحة المسجد, وهي جزء تاريخي أصيل من هذا المسجد العظيم.

فهناك تحت المبنى القائم في صدر الجهة الجنوبية و المعروف بالجامع الأقصى أو المسجد المسقوف, يقع بناء عريق “تسوية” يتم الدخول اليه بواسطة درج حجري, يقع أسفل أبواب المبنى العلوي, وقد كان هذا البناء مهجوراً طوال القرون الأخيرة, ولم يكن الدخول اليه ممكناً بسبب الأتربة ولاحجارة التي كانت تغطي مساحات كبيرة منه, ومنذ أواخر عقد التسعينات من القرن العشرين, انتهت الجهات المشرفة على المسجد وبمؤازرة الخيرين من أيناء القدس وفلسطين, من تنظيف هذا المكان الطاهر وإعادة تأهيله وتعميره ليعود كما كان, جزءاً أصيلا من المسجد الأقصى.

ويلاحظ الزائر أن تصميم هذا الجامع من الداخل فيه الكثير من الخلط وعدم الانسجام حيث يجد فيه عدداً من المساحات المتفاوتة التي تتصل مع بعضها البعض بواسطة سلالم حجرية. ويرجع تفسير هذا التفاوت وعدم الانسجام في مكونات الأقصى القديم الداخلية إلى حقيقة كبيرة مؤداها أن الهدف الأساس لبناء الأقصى القديم وجميع المباني السفلية المجاورة له, هو تسوية هذه الساحة لتكون في مستوى القسم الشمالي منها ليتحقق بذلك الانسجام التام في توحيد مفهوم المسجد الأقصى المبارك.

وتحت الساحة التي تقع شرق المبنى القائم في الجهة الجنوبية يقع مبنى آخر هو الأكبر من حيث المساحة من بين مباني المسجد الأقصى كلها, هو الذي يعرف باسم (بالمصلى المرواني). حيث قامت لجنة إعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة بالتعاون مع الجمعيات الخيرية في أرض الإسراء والمعراج بإعادة تأهيل هذا المسجد, ليصبح مصلى للمسلمين ويفشل المخطط الاسرائيلي الذي كان يستهدفه لجعله كنيساً يهودياً والاستيلاء عليه. ويقع في زاويته الجنوبية الشرقية ما يعرف باسم ( مهد عيسى (عليه السلام))وهو مكان يعتقد البعض أن سيدنا عيسى (عليه السلام) قد رفع الى السماء منه, إلا أنه ليس هناك دليل على صحة هذا الاعتقاد.

والحقيقة أن هذا البناء يرجع الى العهد الاموي الاول, شأنه في ذلك شأن جميع المرافق والمباني الموجودة داخل ساحة الأقصى, إذ يتفق المئرخون على أن هذه الساحة كانت فارغة من الأبنية عند قدوم المسلمين بل إن الراجح أنها كانت فارغة قبل قدومهم بمئات السنين, إضافة إلى أن النمط العمراني الذي بني على أساسه هذا المسجد, من أعمد وجسور وأقواس, يشبه الى حد كبير ما يشاهد في البناء العلوي للمسجد الأقصىإضافة الى الحقيقة الكبرى التي لا يجي إغفالها, وهي أن هذا البناء – المصلى المرواني – لم يكن هدفاً في حد ذاته بل إن الهدف منه ومن بناء الأقصى القديم الذي يجاوره هو تحقيق وحدة الأقصى المعمارية التي كان يصعب أن تتحقق في هذه المساحة المستوية والمتصلة لولا هذه التسويات الأرضية, التي تختلف في أحجامها وأشكالها من الداخل لتحقق صورة واحدة من الخارج وتشكل الاستواء المحيط بالمسجد.

بيد أنه من الثابت تاريخياً أن الصليبيين الذين احتلوا بيت المقدس في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد استولوا على المسجد الأقصى وانتهكوا حرمته, وارتكبوا فيه أبشع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها الانسان في حق أخيه الانسان. إذ تذكر كتب التاريخ أن أهل القدس من العرب, مسلمين ومسيحيين, لجأوا الى هذا المكان المقدس لعلهم يسلمون من جرائم هؤلاء الغزاة, ولكن الفرنجة الذين قدموا من أواخر البحار لم يفهموا هذه الرسالة, واقترفوا في هذه البقعة الطاهرة أبشه المجازر التي عرفها التاريخ, حيث ذبح فيها ما يقرب من سبعين ألفاً من الأطفال والنساء والشيوخ.

وتحول يومها هذا المسجد إلى مقر لقيادة المحتلين, حيث كان مبنى المسجد في الجهة الجنوبية مقراً للفرسان, ورفع الصليب على قبة الصخرة وحولت لكنيسة, أما التسويات الأرضية, فحولوها الى إسطبلات لخيولهم, وما زالت آثار الحلقات التي استحدثوها في أعمدة هذا المسجد ظاهرة إلى يومنا هذا, وكذلك البوابة الثلاثية التي تشاهد في السور الجنوبي للأقصى, والتي يعتقد أنهم استخدموها لإدخال و إخراج الخيول والدواب.

ولعل التسمية التي أطلقها الصليبيون على المصلى المرواني, وهي “إسطبلات سليمان”, هي التي أوقعت العديد من المتأخرين “من اليهود” في وهم الاعتقاد بان هذا المبنى يعود الى عصر سليمان (عليه السلام). وذهب الصليبيون وبقي الأقصى شامخاً, بعد ان نفض عنه القائد صلاح الدين الأيوبي ذل الاحتلال, وطهره من آثاره و آثامه.

واليوم بعد مرور أكثر من ثمانية قرون على هزيمة الفرنجة وتحرير بيت المقدس, تقع هذه المدينة المقدسة التي تحتضن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين تحت احتلال أجنبي جديد, وها هو المسجد الأقصى يمسي ويصبح في دوامه الخطر, فمنذ سقوط القدس في يد المحتلين ومخططاتهم سارية تجاه القدس والأقصى, فقد رصد المهتمون أكثر من عشرين جمعية يهودية تعمل بمؤازرة دولة الاحتلال على تهويد منطقة الأقصى والقدس عموماً, ولها في ذلك وسائل كثيرة وعديدة, فبمجرد احتلالهم مدينة القدس قاموا على الفور بهدم حي المغاربة المحاذي للأقصى من الجهة الغربية الجنوبية, وأزالوه من الوجود وشردوا وقتلوا سكانه من العرب المسلمين, واعتبروه حياً لليهود, وجعلوا من حائط البراق الذي يمثل الحائط الغربي للأقصى حائطاً مقدساً لهم.

ومنذ سقوط القدس تحت سيطرتهم تعرض الأقصى الى أكثر من أربعمائة محاولة اعتداء, كان أخطرها إحراقه في سنة 1969م, وكذلك المحاولات التي استهدفت تفجيره, وقصفه بالصواريخ في سنة 1980م, ةفيسنة 1984م, وكذلك المجازر التي ارتكبت في ساحاته سنة 1982م, وسنة 1990م, وسنة 1996م, أما محاولات اقتحام المسجد والمساس بحرمته وقدسيته وقمع المصلين الآمنين ومطاردتهم بالرصاص والقنابل الغازية داخل ساحاته ومبانيه, فهي كثيرة وعديدة, بل إن هذه الصورة تتكرر أحياناًفي الأيبوع الواحد أكثر من مرة, وفي بعض الأحيان كانت عدسات الكاميرا تنجح في التقاط صور لهذه الجرائم البشعة لتكون شاهداً على هذه الحقبة من التاريخ وعلى المستوى الاجرامي لهؤلاء المحتلين.

ولعل أخطر و أكبر الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد هذا المسجد منذ احتلاله الى اليوم هي الحفريات والتنقيبات الجارية تحت أساساته, وهم يزعمون أنهم يبحثون عن آثار هيكلهم المزعزم, والحقيقة هي أن نتائج هذه الحفريات لم تعثر على شيء يخص هذا الهيكل باعتراف علمائهم وعلماء غربيين مشهورين, وعلى ما يبدو فأن الهيكل ليس موجوداً إلا في خيالهم وكتبهم ورسوماتهم, وقد كانت جميع المكتشفات الأساسية في هذه المنطقة تعزز الهوية العربية الاسلامية لمنطقة المسجد الأقصى ومحيطه,إلا أنهم ماضون في غيهم دون توقف, إلى حد أنه أصبح اليوم يوجد تحت أساساته المسجد الأقصى مجمع ضخم من الحفريات و النفاق, مما بات يشكل الخطر الأكبر على المسجد الأقصى, خصوصاً و أن هذه الحفرياي بدأت في السنوات الأخيرة تأخذ طابع السرية التامة, ولم يعد أحد يدري شيئاً عما يجري, وكأن ما يقومون به هو عملية عسكرية محضة لا يريدون ان يعرف الناس عنها شيئاً.