فتح صلاح الدين للقدس

في الأول من محرم عام 567 هـ/1171م انطفأت آخر شمعة في عمر الدولة الفاطمية التي عمَّرت زهاء (262 عاماً) بوفاة آخر خلفائها في مصر الخليفة (العاضد لدين الله)، فقطع صلاح الدين الخِطبة بمصر للخليفة الفاطمي وأقامها للخليفة العباسي (حسن المستضيء بأمر الله)، وبذلك عادت مصر إلى كنف الدولة العباسية، وأصبحت مصر بناءً على هذا التطور اللافت من ضمن حدود الدولة الزنكية في بلاد الشام والموصل بقيادة السلطان (الملك العادل نور الدين محمود)، الذي ورث عن أبيه السلطان (عماد الدين زنكي) مشروع تحرير بيت المقدس وسواحل الشام من الغزاة الصليبيين، إلا أن القدر عاجله فتوفي في عمر 56 عاماً في 15 مايو/أيار عام 1174م قبل أن يرى مشروعه النور.

بوفاة السلطان الملك (العادل نور الدين محمود) دبَّ الصراع والشقاق بين الأمراء آل زنكي على من يحق له الوصاية على ابنه (الملك الصالح إسماعيل) ذي الـ11 عاماً، فاضطر بعضهم لمهادنة الصليبيين ودفع جزية مالية لهم مقابل المؤازرة للفوز بعرش الوصاية، وأمام هذا الواقع المرير تحرك صلاح الدين بقواته من مصر نحو الشام، بعد أن استغاث به شمس الدين محمد بسبب غارات الصليبيين على دمشق وأحوازها، فتمكَّن صلاح الدين من رد الصليبيين على أعقابهم ومطاردة الأمراء الزنكيين والاستيلاء على حواضرهم في دمشق وحمص وحماة وحلب وكان آخرها الموصل في الجزيرة الفراتية عام 577 هـ/1181م، ومن ثم تمكن من تأليف جبهة إسلامية واسعة تمتد من الفرات شرقاً إلى برقة (ليبيا) غرباً، ومن الموصل وحلب شمالاً إلى مصر واليمن جنوباً، بهدف العمل على تطويق الإمارات الصليبية في بيت المقدس وسواحل الشام بين فكي كماشة.

 

في عام 583 هـ/1187م أغار "أرناط" صاحب قلعة الكرك والشوبك في الأردن على قوافل الحجاج المتجهين لمكة المكرمة، فأرسل صلاح الدين إلى كل رجاله وأعوانه في جميع أركان دولته يطلب منهم القدوم بقواتهم للاستعداد للحرب القادمة مع الصليبيين، وبالفعل في يوم السبت 25 ربيع الثاني عام 583 هـ/4 يوليو/تموز عام 1187م وقعت أكثر المعارك حسماً في التاريخ وهي معركة حطين بين المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي والصليبيين بقيادة ملك بيت المقدس (غي دي لوزينيان) بالقرب من قرية المجاودة بين الناصرة وطبرية، انتهت المعركة بانتصار ماحق ساحق للجيش الأيوبي على الجيش الصليبي، وأسر ملك مملكة بيت المقدس غي (دي لوزينيان) وعدد لا حصر له من الأمراء والبارونات الصليبيين من ضمنهم "أرناط" صاحب قلعة الكرك والشوبك الذي قتل على يد صلاح الدين جزاء اعتدائه على قوافل الحجيج.

وبعد معركة حطين تمكن صلاح الدين من الاستيلاء على المدن الساحلية من أيدي الصليبيين واحدة تلو الأخرى كعكا، بيروت، صيدا، يافا، قيسارية، عسقلان، وفي سبتمبر/أيلول عام 1187م فور وصوله لبيت المقدس فرض عليها حصاراً شديد، فلم يكن أمام حامية بيت المقدس التي استماتت في البداية في الدفاع عنه إلا أن تستسلم للأمر الواقع، وأمام إصرار صلاح الدين وجنوده على تحرير بيت المقدس، استسلمت المدينة في 2 أكتوبر/تشرين الأول عام 1187م بفتح أبوابها، وخفقت راية السلطان صلاح الدين الصفراء فوق مآذن بيت المقدس.

حصار المسلمين لمدينة القدس واستعادتها

 وبعد انتصار صلاح الدين الأيوبي (532ﻫ/1138م-589ﻫ/1193م) في معركة حطين عام 583ﻫ/1187م، أمر بفتح المدن والقلاع التي كانت تسيطر عليها الفرنجة، وبعد أن انتهت مهمة القوات الأيوبية باستعادة معظم المناطق قرر السلطان أن يتوجه بنفسه نحو القدس، حيث رعب العدو كثيرا بهذا القرار (الأصفهاني، 1965: 117).

 هذا وقد وصلها السلطان يوم الأحد الموافق 15 رجب عام 583ﻫ/20، أيلول عام 1187م، فنزل بالجانب الغربي منها، وكانت القوات الإسلامية تقيم هناك، وقد قدر عدد هذه القوات بحوالي ستين ألفا (نفس المرجع السابق).

وأخذ السلطان بتفحص ومعرفة نقاط الضعف في أسوارها، حيث قرر التركيز على الجهة الشمالية من المدينة (ابن شداد، 1964: 81؛ الأصفهاني، 1965: 43 و 124)، حيث نصب المسلمون المجانيق فيها، وكان ذلك يوم الأحد الموافق 15 رجب عام 583ﻫ/20 أيلول عام 1187م حتى وصلوا إلى سور المدينة ونقبوه، وشرعوا بالهجوم عند باب العمود في الجهة الشمالية من البلدة القديمة، وحمل المسملون حملة رجل واحد (أبو شامة، ج3، 1997: 330-331). فلما شاهد الصليبيين ذلك طلبوا الأمان من القوات الإسلامية (أبو شامة، ج3، 1997: 330-331؛ ابن واصل، ج2، 1957: 212).

مفاوضات الصلح بين السلطان صلاح الدين الأيوبي والإفرنج

في الوقت الذي اشتد فيه هجوم صلاح الدين على القدس، اتسعت رقعة الخلاف داخل المدينة بين الطوائف المسيحية (سعيد البيشاوي، 2009: 171).

 وتذكر بعض المراجع إلى تآمر الأرثوذكس في المقدس مع صلاح الدين، ووجود اتصالات سرية بين الطرفين تعهد فيها الأرثوذكس بفتح أبواب المدينة. (ابن واصل، ج2، 1957: 213-214؛ أبو شامة، ج3، 1997: 340-341).

 ولم يلبث باليان دي إبلين Balian of Ibelin (534ﻫ/1140م-588ﻫ/1193م) أن أدرك استحالة المقاومة. لا سيما بسبب نقص الرجال والمقاتلين، حتى قيل أنه كان في بيت المقدس عندئذ رجل واحد مقابل كل خمسين من النساء والأطفال (ابن واصل، ج2، 1957: 213-214؛ أبو شامة، ج3، 1997: 340-341).

لذلك "أرسلوا جماعة من كبرائهم في طلب الأمان وتسليم القدس "بشرط احترام من بالمدينة من الفرنجة، والسماح لمن يشاء بمغادرتها". وكانت هذه الشروط نفسها هي التي سبق أن عرضها صلاح الدين من قبل ورفضها باليان. ولكن صلاح الدين أصر على تسليم المدينة دون قيد أو شرط (نفس المراجع السابقة).

 وعندما ساء موقف الفرنجة داخل بيت المقدس، حاولوا مرة أخرى إقناع صلاح الدين بالعفو عنهم، فخرج باليان "ابن بارزان" بنفسه لاستعطاف صلاح الدين (نفس المراجع السابقة). وعندما أصر صلاح الدين الأيوبي على موقفه لجأ باليان إلى الترغيب والتهديد، فكان موقف صلاح الدين الإصرار على المقاومة والصمود في وجه المحتلين . 

الإتفاق على تسليم القدس وتحريرها دون قتال

اتفق صلاح الدين الأيوبي وأصحابه على ترك المسيحيين يغادرون المدينة مقابل عشرة دنانير فداء الرجل منهم "يستوي فيها الغني والفقير"، وخمسة دنانير فداء للمرأة، ودينار واحد للطفل. أما الفقراء من الفرنجة فقد وافق صلاح الدين على أن يدفع باليان لسبعة آلاف منهم مبلغا إجماليا قدره ثلاثون ألف دينار (ابن شداد، 1964: 82). واشترط صلاح الدين أن يكون ذلك خلال أربعين يوما (عاشور، ج2، 1978: 788-789).

 وتحررت القدس صلحا عام 583ﻫ/1187م. وعندما نصب السلطان صلاح الدين خيامه أمام أسوار بيت المقدس "سلموا المدينة بشرط أن يتم تحريرهم مع كل ما يمكن حمله من أمتعة، وأن يتولى حمايتهم بنفسه إلى أراض أكثر أمانا" (يعقوب الفيتري، 1998: 152).

 وارتكز الصلح على أن يدفع الصليبيون الجزية عن كل شخص. كما وأقيمت الصلوات في المسجد الأقصى، وأدى صلاح الدين الصلاة في قبة الصخرة بعد أن تم تنظيفها وتطهيرها من الأوساخ والقمامة التي كان قد تركها الصليبيون (المنصوري، 1998: 4؛ المقريزي، ج1، ق1: 1957: 122).

 

القدس في العهد الأيوبي

أقام صلاح الدين في القدس، وكان في خدمته الأمير علي بن أحمد المشطوب (مجير الدين الحنبلي، 1973: 341). وعندما غادر المدينة المقدسة خلف اخاه الملك سيف الدين العادل، يقرر قواعدها (ابن شداد، 1964: 83).

ولم تغفل عين السلطان على القدس؛ إذ حضر لزيارتها عام 587ﻫ/1191م، فلما وصلها نزل بدار القسس المجاورة لكنيسة القيامة (ابن الأثير، ج12، 1966: 74؛ المقريزي، ج1، ق1، 1957: 134).

وشرع في تحصين المدينة، وأمر بحفر خندق عميق، وأنشأ سورا، وأحضر 2000 أسيراً من الإفرنج، وجدد أبراجا حربية من باب العمود إلى باب المحراب (باب الخليل)، وأنفق عليها أموالا جزيلة، وقسم بناء السور على أولاده وأخيه العادل وأمرائه، وأشرف على ذلك البناء (ابن الأثير، ج12، 1966: 74؛ المقريزي، ج1، ق1، 1957: 134).

طالت إقامة السلطان صلاح الدين لتقوية البلد وتشييد أسواره، وجدد في عمارة الصخرة المقدسة، وأكمل السور والخندق، وسار في غاية الاتقان (مجير الدين الحنبلي، ج1، 1973: 384).

وشارك صلاح الدين في نقل الحجارة والعمارة ملوك وأمراء الدولة الأيوبية، فضلا عن القضاة، والعلماء، والصوفية، والزهاد، والأولياء، وجيع سكان القدس (البغدادي، 1998: 44؛ مجير الدين الحنبلي، ج1، 1973: 385-384). وقد وقف السلطان ثلث دخل نابلس وأعمالها لمصالح القدس وعمارة سورها (مجير الدين الحنبلي، ج2، 1973: 385-384).

وقام بترتيب عدة دواوين في بيت القدس في كل ديوان منها عدد من النواب من المصريين ومنهم من الشاميين (الأصفهاني، 1965: 129).

  • صلح الرملة

أسفرت المفاوضات بين السلطان صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد Richard the Lionheart (551ﻫ/1157م-595ﻫ/1199م) على توقيع اتفاقية الرملة بتارخ 21 شعبان من عام 588ﻫ/12 أيلول من عام 1192م، وفق الشروط التالية:

"تستمر الاتفاقية مدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وتكون اللد والرملة مناصفة بين المسلمين والإفرنج، وتبقى عسقلان خرابا لا تعمر بيد المسلمين، ويكون السهل الساحلي من رأس الناقورة إلى يافا بيد الفرنجة، والسماح للحجاج النصارى بزيارة القدس، وبيت لحم، والناصرة دون دفع أي ضرائب. كما وتكون المنطقة الممتدة في ما وراء يافا إلى رفح مع المسلمين، وتكون صيدا وبيروت وجبيل مع المسلمين، وكذلك البلاد الداخلية" (Runciman,vol. 3, 2002: 73).

سمح السلطان للفرنجة بزيارة بيت المقدس بعد توقيع اتفاقية الرملة (ابن الأثير، ج12، 1966: 86). أما هو فتوجه إلى القدس، وأمر بإحكام سوره، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان، ووقف عليها الوقوف (ابن الأثير، ج12،1966: 87؛ لين بول، 1995: 285).

 

أوضاع القدس بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي

كانت القدس وما جاورها من مدن وقرى وقلاع للعزيز عثمان، وتبقى دمشق وطبريا للأفضل نور الدين "هذا ما تم الاتفاق عليه عام 590ﻫ/1193م بين أمراء الدولة الأيوبية بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي" (ابن الأثير، ج12، 1966: 110).

ولم تستمر سيطرة العزيز عثمان بن صلاح الدين على القدس، لأن السلطان سيف الدين العادل (شقيق صلاح الدين) والأفضل نور الدين بن صلاح الدين أرسلا رسالة إلى نائب العزيز في القدس فسلم المدينة إليهما (سعيد البيشاوي، 2009: 175-176).

وتم تأكيد تبعية القدس إلى الأفضل نور الدين عام 595ﻫ/1198م. ومما يؤكد هذا أن الأفضل التقي بفارسين أرسلا إليه من القدس، فأخبراه أن من بالقدس صار في طاعته (ابن الأثير،ج12،1966: 141).

وشيد الملك المعظم عيسى (615-624ﻫ/1218-1227م)، مدرسة الحنفية بالقرب من باب المسجد الأقصى، وشيد مكانا يسمى النحوية للاشتغال بعلم العربية، ووقف على ذلك أوقافا، وجددت زمنه عمارة القناطر الواقعة على درج الصخرة القبلي وغالب الأبواب الخشب المركبة على أبواب المسجد شغلت في أيامه ومما يؤكد هذا أن اسمه مدون عليها (مجير الدين الحنبلي، 1973: 403).

وعندما علم المعظم توجه الصليبيين إلى القدس، قرر هدم المدينة عام 616ﻫ/مارس 1219م، فأرسل إلى العزيز عثمان وعز الدين أيبك الاستدار يطلب منهما هدم المدينة، حيث ترددوا في تنفيذ ذلك (المقريزي،ج1،ق1،1957: 240).

بسقوط مملكة بيت المقدس تداعت كل أوروبا عام 1189م للإسراع بالأعداد لحملة صليبية ثالثة، لاستعادة بيت المقدس بدعم ومساندة وتحريض من السلطة الدينية في روما الممثلة بالبابا والكرادلة، فتوافدت جحافل الجيوش الصليبية إلى بلاد الشام على رأسهم ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، ورغم تمكن الحملة الصليبية الثالثة من استعادة عدد من مدن الساحل كعكا ويافا وحيفا وعسقلان إلا أنها لم تستطع استرجاع بيت المقدس، وفي يونيو/حزيران عام 1192م بعد معركة أرسوف تم إبرام "صلح الرملة" بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، على أن يبقى بيت المقدس تحت السيطرة الإسلامية، في حين يسمح للحجاج والتجار المسيحيين بزيارة بيت المقدس، وغادر ريتشارد قلب الأسد إلى أوروبا في 9 أكتوبر/تشرين الأول عام 1192م وهو يجر أذيال الخيبة.

دور الملك العادل في التصدي للصليبيين

بعد وفاة صلاح الدين في 27 صفر عام 589 هـ/4 مارس/آذار عام 1193م تم تقسيم الدولة الأيوبية بين أبنائه، فكانت مصر من نصيب عماد الدين أبي الفتح عثمان الملقب بـ(العزيز)، ودمشق من نصيب الأفضل نور الدين علي، إلا أن الصراع دب بين أبناء صلاح الدين على عرش الدولة الأيوبية، مما فتح شهية الصليبيين الذين استولوا على مدينة جبيل وقلعتها عام 590 هـ/1194م، فتدخل الملك العادل أخو صلاح الدين في الصراع القائم بين أبناء أخيه صلاح الدين لإعادة الأمور إلى نصابها، واستغل حصوله على وصاية ناصر الدين ابن العزيز سلطان مصر حتى خلعه ووحد مصر والشام تحت سلطانه عام 596 هـ/1200م.

وفي عهد الملك العادل لم تتوقف غارات الصليبيين على المدن الأيوبية في بلاد الشام، ومنها: الحملة الصليبية الخامسة عام 614 هـ/1217م، إذ بدأت جحافل الصليبيين بالوصول إلى عكا على شكل دفعات، وتجمع لدى الصليبيين أكبر قوة عسكرية لهم منذ الحملة الصليبية الثالثة، وبدأوا حملتهم بالإغارة على مدن وسواحل الشام، فحاصروا بانياس وخربوا أحوازها وتقدموا حتى وصلوا إلى حوران التي نالها ما نال بانياس، ومن ثم عادوا إلى عكا. 

في عام 615 هـ/1218 م قرر مجلس الحرب الصليبي الذي عقد في عكا مهاجمة دمياط بوابة مصر من ناحية البحر، لذلك سارع الملك العادل بإرسال معظم قواته إلى مصر للدفاع عنها تحت قيادة ابنه (السلطان الكامل)، كما طلب من ولديه (المعظم عيسى) صاحب دمشق و(الأشرف موسى) صاحب حلب أن يهاجما معاقل الصليبيين في بلاد الشام ليشغلهم عن مصر، وأثناء محاولات الصليبيين المستميتة لاقتحام دمياط توفي الملك العادل عام 615 هـ/1218 م فدُفن بدمشق.

دور السلطان الكامل في التصدي الحملة الصليبية الخامسة

تولي السلطان الكامل مصر بعد وفاة والده الملك العادل في ظروف استثنائية، إذ كان الصليبيون قد أحكموا حصارهم على مدينة دمياط، فجهز السلطان الكامل قوة برية تدعهما عشرات السفن وباغت القوات الصليبية أثناء حصار دمياط، إلا أنهم تمكنوا من صد هجومه، وفي محاولة من السلطان الكامل لفك الحصار عن دمياط اقترح على الصليبيين أن يتنازل عن نابلس وصيدا وعسقلان وطبرية واللاذقية وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين من بلاد الساحل، ودفع مبلغ 15 ألف مقابل بقاء الكرك والشوبك في يده، ودفع تكاليف إعادة تحصين بيت المقدس بعد تسليمها وباقي القلاع التي خربها المسلمون في بلاد الشام، وإعادة صليب الصلبوت (رمز رموز الحروب الصليبية)، تستمر الهدنة مدة 30 عاماً، وضماناً لحسن تنفيذ العرض تعهد السلطان الكامل بتقديم 20 رهينة من أقاربه ليحتفظ بها الصليبيون مدة عامين حتى يضمن الصليبيون عدم غدر السلطان الكامل بهم، وقد أبدى عدد من أمراء وبارونات الصليبيين استعدادهم لقبول عرض (السلطان الكامل) السخي، إلا أن رسل البابا والقساوسة رفضوا العرض بشدة.

وبعد حصار دام ما يقرب 19 شهراً سقطت دمياط في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1219 م بيد القوات الصليبية الغازية، ثم تقدم الصليبيون للاستيلاء على القاهرة إلا أنهم لم يستطيعوا التقدم بفعل استغلال السلطان الكامل لفيضان النيل لإغراق القوات الصليبية، واضطرت القوات الصليبية للقبول بتسليم دمياط ومغادرة الأراضي المصرية بعدما وجدوا أنهم محاصرون من قبل قوات السلطان الكامل.

تسليم السلطان الكامل بيت المقدس للإمبراطور فردريك الثاني 

معاهدة يافا

 

بناءً على طلب السلطان الكامل من الإمبراطور فردريك الثاني مساعدته ضد أخيه (المعظم عيسى)، جرد فردريك الثاني في عام 625 هـ/1228م الحملة الصليبية السادسة على رأس قوة عسكرية صغيرة قيل 600 فارس ووصل إلى مدينة عكا، وطلب من السلطان الكامل إيفاءه بتعهده بتسليم بيت المقدس، إلا أن السلطان الكامل رفض تسليم بيت المقدس نظراً لتغير قواعد الاشتباك بعد وفاة أخيه المعظم عيسى.

إلا أن الإمبراطور فردريك الثاني كرر مطالبة للسلطان الكامل بتسليم بيت المقدس، بل وصل به الأمر إلى استعطاف السلطان الكامل إلى حد التذلل والبكاء، بل كتب للسلطان الكامل أثناء المفاوضات: "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خائباً انكسرت حرمتي بينهم".

وقد أدى تسلم الناصر داوود بن المعظم عيسى الحكم في دمشق، ونيات جلال الدين الخوارزمي التوسع نحو الغرب (بلاد الشام ومصر)، ووجود الصليبيين على مرمى حجر من بيت المقدس بعد أن أتمَّ الامبراطور فردريك الثاني تحصيناته في يافا، إلى زيادة مخاوف السلطان الكامل مما دفعه للقبول بتسليم بيت المقدس.

التقى الإمبراطور فردريك الثاني بالسلطان الكامل الذي عقد معه اتفاقية "يافا"، والتي كُتبت بصيغتها باللغتين العربية والفرنسية في ربيع الأول 627ﻫ/فبراير/شباط 1229م، وقد نصت الاتفاقية على:  

"مدة الاتفاقية عشر سنين وخمسة أشهر؛ تسلم القدس إلى الفرنجة بشرط ألا تجدد أسوارها. وتبقى قرى منطقة القدس بأيدي المسلمين، ويعين وال عليها يكون مقامه في بلدة البيرة شمال القدس. وتكون اللد، والناصرة، وبيت لحم، وصيدا، والقرى الممتدة على الطريق بين بيت المقدس وعكا بيد الفرنجة. ويتعهد الإمبراطور فردريك الثاني أن يبقى الحرم الشريف بما فيه من المزارات بيد المسلمين، ويقيمون فيه شعائر الإسلام من الأذان والصلاة وغيرها. ويتعهد الإمبراطور فردريك الثاني بمنع وصول الحملات الصليبية إلى مصر وبلاد الشام طوال مدة المعاهدة" (سعيد البيشاوي، 2009: 117؛ Runciman, vol.3, 2002: 69).

عقد الكامل محمد والإمبراطور فريدريك الثاني Frederick of Hohenstauten (590ﻫ/1194م-647ﻫ/1250م) هذه الإتفاقية في 28 ربيع الأول عام 626ﻫ/25 شباط عام 1229م، والتي نصت على التنازل الكامل عن المقدس للفرنجة وفق الشروط التالية:

1- تُسلم بيت المقدس للإمبراطور (فريدريك الثاني) على أن تظل أسوار المدينة وتحصيناتها خراباً وألا تجدد الأسوار.

2- يأخذ الصليبيون بيت لحم والناصرة.

3- ألا يكون للصليبيين موطئ قدم خارج مدينة بيت المقدس.

4- أن تظل قرى بيت المقدس وضواحيها في أيدي المسلمين على أن يديرها والي مسلم وتكون البيرة مقراً له.

5-يظل الحرم القدسي بما فيه من المعالم كالصخرة والمسجد الأقصى في أيدي المسلمين ويظل شعار الإسلام فيه ظاهراً.

6-تكون القرى الواقعة على الطريق بين القدس وكل من عكا ويافا تحت إدارة الصليبيين لحماية أرواح الحجاج وضمان سلامتهم.

7- يتعهد الإمبراطور فردريك الثاني بالمشاركة في الدفاع عن السلطان الكامل ضد أي عدو حتى لو كان من الصليبيين أنفسهم.

أثارت اتفاقية يافا وما تبعها من خضوع وتسليم بيت المقدس موجة عارمة من السخط والأسى في الرأي العام الإسلامي كله، وعند الفقهاء والعلماء بوجه خاص، وقد اعتبر المسلمون أن تسليم بيت المقدس بهذه الطريقة وصمة عار في جبين البيت الأيوبي بصفة عامة، والسلطان الكامل بصفة خاصة.

 ولم يلتزم الفرنجة بما تم الاتفاق عليه، فقد عمر في غربي الحرم "قلعة جعلوا برج داود من أبراجها، وكان بقي هذا البرج لم يخرب لما خرب معظم أسوار القدس" (ابن واصل، ج5،1977: 246).

 ويذكر جمال الدين بن واصل الذي سكن في القدس عام 641ﻫ/1243م، مشاهدته الرهبان يشربون الخمر على الصخرة المقدسة، وجرسا معلقا في داخل المسجد الأقصى، ومنعوا الأذان والصلاة بالحرم الشريف (ابن واصل،ج5، 1977: 333).

وبعد احتلال الإفرنج  للمدينة، تحالف الملك الصالح نجم الدين أيوب (603ﻫ/1205م-647ﻫ/1249م) مع الخوارزمية واستطاع بواستطهم تحرير مدينة القدس في صفر 642ﻫ/1244م (ابن واصل،ج5،1977: 336-337؛ المقريزي،ج1،1970: 418).

في عام 623ﻫ/1226 م دب صراع لخلاف بين السلطان الكامل وأخيه (المعظم عيسى) صاحب دمشق على الحكم، فاستعان المعظم عيسى بالسلطان جلال الدين الخوارزمي سلطان الدولة الخوارزمية في بلاد فارس وما وراء النهر، في المقابل استعان السلطان الكامل، بإمبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة في ألمانيا (فردريك الثاني)، وتعهد السلطان الكامل لفردريك الثاني بمنحه بيت المقدس، وجميع فتوحات صلاح الدين بساحل الشام في حال مساعدته، إلا أن الموت عاجل المعظم عيسى في عام 1227م.

 

ويصور المقريزي ما حل بالمسلمين من ألم بقوله: (فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من بيت المقدس إلى مخيم السلطان الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان، واشتد الإنكار على السلطان الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار).

صراع الأمراء الأيوبيين على السلطة والنفوذ

في 6 مارس/آذار عام 1238 م بعد وفاة (الملك الكامل) وتسليم مدينة بيت المقدس لـ(فردريك الثاني) ملك ألمانيا، دخل الأمراء الأيوبيون من بعده في حالة صراع على السلطة وتوزيع المناصب؛ إذ اتفق الامراء الأيوبيون ومن بينهم (الصالح عماد الدين إسماعيل) صاحب بعلبك و(الناصر داوود) صاحب الكرك، على تنصيب (العادل الثاني) ابن الملك الكامل سلطاناً على مصر بدلاً من أخيه الأكبر (الصالح نجم الدين أيوب) الذي كان في مهمة حربية للاستيلاء على مدينة الرحبة (مدينة الميادين في سوريا)، في المقابل حصلت مقايضة أربكت الأمراء الأيوبيين في بلاد الشام وهي تنازل (الملك الجواد مظفر الدين) عن دمشق لـ(الصالح نجم الدين أيوب).

شعر (العادل الثاني) صاحب مصر بالخوف بعدما أن أصبح أخوه (الصالح نجم الدين أيوب) أميراً على دمشق، ومما زاد الطينة بلة مطالبة كبار قادة الجيش في مصر من (الصالح نجم الدين أيوب) الحضور لمصر لامتلاكها ووعده بالمؤازرة، فتحرك (الصالح نجم الدين أيوب) بقواته من دمشق قاصداً مصر، واستولى في طريقه على عدد من المدن كنابلس والأغوار، إلا أن الخليفة العباسي المستنصر بالله (1226م -1242م) توسط بين الأخوين وطلب من (الصالح نجم الدين أيوب) أن يتصالح مع أخيه (العادل الثاني) حقناً للدماء، فأوقف الصالح نجم الدين أيوب زحفه نحو مصر احتراماً للخليفة العباسي.

غدر الملك الناصر داود وتسليم القدس بعد تحريرها 

وبينما (الصالح نجم الدين أيوب) يعسكر في نابلس (فلسطين)، تمكن عمه (الصالح عماد الدين إسماعيل) من مهاجمة دمشق وحصارها، ولما علم (الصالح نجم الدين أيوب) بحصار دمشق توجه على وجه السرعة لحمايتها إلا أن (الصالح عماد الدين إسماعيل) كان قد استولى على دمشق، فقرر (الصالح نجم الدين أيوب) العودة إلى نابلس، وفي طريق العودة فارقه عدد كبير من جنده، وأمام هذا الواقع المرير طلب (الصالح نجم الدين أيوب) المساعدة من ابن عمه (الناصر داوود) صاحب الكرك، فأرسل (الناصر داوود) إليه بعض الأمراء على رأس ثلاثمائة فارس بزعم حمايته، إلا أنهم ألقوا القبض عليه هو وجاريته شجر الدر.

وبينما (الصالح نجم الدين أيوب) في الأسر لدى ابن عمه (الناصر داوود)، قام الصليبيون في بيت المقدس بخطوة بناء قلعة داخل المدينة، فاعتبرها الناصر داود فرصة لمهاجمة مدينة بيت المقدس والظهور كبطل أمام المسلمين في العالم الإسلامي، فجهز قوة عسكرية وسار على رأسها، فحاصر مدينة بيت المقدس وضربها بالمنجنيق واستولى عليها وأخرج الصليبيين منها في 7 ديسمبر/كانون الأول عام 1239م بعد أن حاصرها قرابة 20 يوماً.

بعد سبعة شهور من اعتقال (الناصر داوود) الصالح نجم الدين أيوب بقلعة الكرك، قرر (الناصر داوود) استغلال الصراع بين الأمراء الأيوبيين والاستيلاء على مصر، فأطلق سراح (الصالح نجم الدين أيوب) مقابل تقاسم السلطة في حالة الاستيلاء على مصر، عندما تحركا نحو مصر أعد السلطان (العادل الثاني) قوة عسكرية للتصدي لهما، إلا أن كبار قادة الجيش انقلبوا عليه واعتقلوه، وأرسلوا إلى (الصالح نجم الدين أيوب) يطلبون منه الحضور إلى مصر على وجه السرعة، فدخل (الصالح نجم الدين أيوب) القاهرة وتوج سلطاناً على مصر وتنكر للعهود التي كان قد قطعها لـ(الناصر داود) الذي قام بتصرف مشين وهو تسليم بيت المقدس للصليبيين بعد أن كان حررها قبل عام، نكاية بابن عمه (الصالح نجم الدين أيوب).

الصالح نجم الدين أيوب ومعركة غزة عام 1244م

شكل استيلاء (الصالح نجم الدين أيوب) على مصر تهديداً حقيقياً للأمراء الأيوبيين في بلاد الشام، فطلب (الصالح عماد الدين إسماعيل) من الصليبيين مساعدته في مقابل تسليمهم جميع ما فتحه (صلاح الدين)، ثم تطور الصراع بشكل لافت إلى إقامة حلف (أيوبي-صليبي) مناهض للصالح نجم الدين أيوب في مصر، وحتى يكسر (الصالح عماد الدين إسماعيل) الشك باليقين منح الصليبيين صفد وشقيف ونصف صيدا وطبرية وسائر بلاد الساحل، كما سمح لهم بدخول دمشق وشراء السلاح منها، بل وصل بالصليبيين نتيجة تساهل (الصالح عماد الدين إسماعيل) من الصعود لقبة الصخرة واحتساء الخمر.

يروي المؤرخ ابن واصل الحموي، أثناء مروره بمدينة بيت المقدس عن هذه الحادثة عام 641 هـ فيقول: (فرأيتُ الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلتُ الجامع الأقصى وفيه جرس معلّق، وأُبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة، وأُعلن فيه بالكفر).

وأمام هذا التطور اللافت في بلاد الشام استعان (السلطان الصالح نجم الدين أيوب) بالخوارزميين الذين عبروا نهر الفرات بـ 10 آلاف مقاتل تحت قيادة (الأمير حسام الدين بركة خان) الذي توجه وقوات نحو مدينة بيت المقدس عام 642 هـ /1244 م فتمكنوا من حصارها واقتحامها، فاستنجد صليبيو بيت المقدس بـ(الناصر داوود) صاحب الكرك الذي توسط على خروجهم من القدس إلى عكا.

بعد استعادة الخوارزميين مدينة بيت المقدس قرر الحلف (الأيوبي-الصليبي) التحرك لدفع خطر (السلطان الصالح نجم الدين أيوب) الذي جهز بدوره جيشاً تحت قيادة الأمير (ركن الدين بيبرس)، وانضم إليه الخوارزميون عند وصوله لغزة، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1244م وقعت معركة عرفت باسم (غزة) أو (معركة هربيا) أو (معركة لافوربي) التي كان فيها الجيش الصليبي المتواجد ميمنة الجيش الأيوبي أكبر جيش صليبي منذ موقعة حطين، وقعت المعركة وتمكنت قوات (الصالح نجم الدين أيوب) بدعم من الخوارزميين من هزيمة الحلف (الأيوبي-الصليبي) وتطويق الصليبيين الذين وقعوا بين فكي كماشة، فسقطوا بين قتل وجريح وأسير، وقدر عدد القتلى من الصليبيين بأكثر من 5 آلاف قتيل.

بعد معركة غزة أو معركة هربيا أو معركة لافوربي تمكنت قوات (الصالح نجم الدين أيوب) من الاستيلاء على سائر فلسطين وملاحقة فلول الأيوبيين والصليبيين، فتحصن (الصالح عماد الدين إسماعيل) بدمشق، وبعد حصار طويل دخل الأطراف في مفاوضات تقرر على إثرها أن يقوم (الصالح عماد الدين إسماعيل) بتسليم دمشق على أن يخرج منها سالماً بأمواله، وبذلك تم توحيد مصر والشام تحت سلطان واحد وهو (الصالح نجم الدين أيوب). 

المصادر

1- كتاب علي محمد الصلابي، الحملات الصليبية
2- الاستيطان الصليبي لبيت المقدس، دراسة لمصطفى قداد
3- ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم (ت630ﻫ/1232م). الكامل في التاريخ. ج12. (دار صادر: بيروت، 1966).
4- ابن البطريق. افتيشيوس الملقب بسعيد. التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق. (مطبعة الآباء اليسوعيين: بيروت، 1909).
5- ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، فضائل بيت المقدس. تحقيق: جبرائيل جبور (دار الآفاق الجديدة: بيروت، 1979).
6- ابن الطاهر المقدسي، البدء والتاريخ، (باريس: دار صادر: بيروت، 1899).
7- ابن العبري، غريغوريوس بن هارون الملطي. تاريخ مختصر الدول. (المطبعة الكاثوليكية: بيروت، 1890م).
8- ابن العديم، عمر بن أحمد، بغية الطلب في تاريخ حلب. ج12، تحقيق: سهيل زكار. (دار الفكر: بيروت، 1988).
9- ابن الوردي، أبو حفص زين الدين عمر بن المظفر (ت 749ﻫ/1349م). تتمة المختصر في أخبار البشر، ج2. تحقيق: أحمد رفعت البدراوي. (دار المعرفة للطباعة والنشر، 1977).
10- ابن سعد (230ﻫ/844م). الطبقات الكبرى. (دار صادر: بيروت/ب.ت).
11- ابن شداد (632ﻫ/1234م)، الاعلاق الخطيرة في أمراء الشام والجزيرة. (دمشق: 1965).