القدس على مر العصور
القدس في العصر القديم
يقوم علم دراسة الإنسان القديم على الربط بين البقايا العضوية والثقافية للإنسان القديم، وهي العصور الحجرية التي اعتمد فيها الإنسان على الحجر باعتباره أداة للعمل والدفاع، ولا يوجد في فلسطين من الآثار التي تدل على فعل حضاري في هذه الفترة التي تعود إلى نحو مليون إلى نصف مليون سنة.
فهذا العصر ما زالت آثاره المعروفة موجودة في أفريقيا، ولكن من المؤكد أن الإنسان انتقل من أفريقيا إلى فلسطين وبخاصة على جانبي نهر الأردن، فثمة بعض المؤشرات على وجود آثار للإنسان جنوب بحيرة طبرية.
وفي مراحل لاحقة من العصر الحجري وجدت آثار للإنسان في الجليل، وتعود أول آثار معروفة للإنسان في القدس إلى ما قبل 40 ألف سنة، ولكن في العصور الحجرية المتوسطة التي تعود إلى 8 آلاف سنة قبل الميلاد فيوجد آثار في وادي النطوف شمال غربي القدس تدل على ثقافة متطورة نسبياً، مثل البيوت والأكواخ وتماثيل الحيوان والإنسان. وعرف عن القدس في العصر الحجري الحديث العمليات الزراعية المنظمة، مثل الفخار والطواحين، والمستوطنات الزراعية، ولكن هذه الآثار لا تدل على أن القدس كانت تتمتع بمكانة عظيمة في تلك العصور، فربما كانت أريحا القريبة منها أهم منها بكثير.
الفترة ما قبل الكنعانية
يمتاز هذا العصر باستعمال البرونز (خليط من النحاس والقصدير)، وظهرت فيه الكتابة (3200 ق.م) التي تعتبر نقطة تحول ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية، وكانت أول وأقدم الهجرات السامية هي الآمورية إلى فلسطين خلال الألف الخامس قبل الميلاد، ثم الكنعانية.
تشير الحفريات إلى أن مدينة القدس بنيت مع بداية العصر البرونزي المبكر أي قبل مجيء الكنعانيين واليبوسيين كما هو شائع، وكانت ذات هوية آمورية، وكانت بلدة صغيرة على مرتفع قرب عين جيحون، وشهدت استيطاناً بشرياً ونشاطاً زراعياً واضحاً، وامتاز عمران المدينة بالتخطيط المعماري الدائري في شكل البيوت، وحفر الآبار فيها، والاعتماد على الأعمدة الكبيرة وسط البيوت، والشكل الدائري للأسوار. وفي نهاية العصر البرونزي المبكر شهدت جفافاً قاسياً، فازدادت عمليات الهجرة العشوائية إلى شرق الأردن وشمال الجزيرة العربية.
وبنيت مدينة القدس ثانية في العصر البرونزي الأوسط (القدس الكنعانية) أو (أورو سالم) أي مدينة الإله سالم، وكان من تقاليد الكنعانيين الدينية عبادة آلهة كبرى تشترك فيها جميع المدن الكنعانية، وكان لكل مدينة إله خاص بها والذي غالباً ما تشتق اسمها منه مثل (بيت شان) بيسان فهي مدينة الإله شان، وأريحا مدينة إله القمر يرح.
وتظهر الآثار في العصر البرونزي الأوسط أن القدس الكنعانية كانت محاطة بسور من الطين والحجر من جهاتها الأربع، وتربطها بعين جيحون قناة سرية تنتهي بخزان داخل السور، وعرفت كذلك الصخرة المقدسة لبيت المقدس التي كانت مقدسة عند الكنعانيين عامة واليبوسيين خاصة.
وشاعت تسمية القدس كما في الوثائق والأواني المصرية في ذلك الوقت باسم "أورشليم"، وكان اسمها قبل ذلك "منورتا" الذي يوحي بأصل آموري، ومعناه الشمعة أو الضوء، وهو المعنى نفسه لكلمة "شالم" أو "سالم" الكنعانية.
وتحولت القدس في العصور البرونزية المتأخرة إلى يبوسية، واليبوسيون هم أشراف وزعماء الكنعانيين في القدس، ثم وقعت تحت الاحتلال المصري، ثم استولى عليها الحثيون عندما احتلوا بلاد الشام ودخلوا في حروب طويلة مع المصريين، ثم تحولت القدس إلى مركز للمجتعات الزراعية والرعوية التي تشكلت فيما بعد من الكنعانيين والحوريين والبدو "العابرين" من الصحاري والأراضي الزراعية الجافة.
وقد ظهر مصطلح كنعان عام 1280 ق.م.، أي قبل ظهور التوراة بزمن طويل، وكان الكنعانيون قبل ذلك يسمون "شام".
وظهر اسم إسرائيل للمرة الأولى في لوح مرنبتاح في وصف مدينة كنعانية، ولم تذكر إسرائيل آثاريا في جميع منطقة الشرق الأدنى إلا عام 842 ق.م عندما حارب ميشع إسرائيل.
وقد عبد اليبوسيون الإله بعل وكان مقر عبادته جبل صهيون، وصهيون اسم كنعاني عرف قبل ظهور اليهود بألف سنة، ثم نسبه اليهود إلى أنفسهم كما نسبوا "سالم" إلى سليمان.
فترة الكنعانيين المملكة المصرية الجديدة
مدينة أورشليم عربية المنشأ والتطور فقد أسسها العرب الكنعانيون الذين سكنوا فلسطين في الألف الثالث قبل الميلاد، وقد قدم إليها العرب الساميون في هجرتين كبيرتين الأولى في بداية الألف الثالث قبل الميلاد، والثانية في بداية الألف الثاني قبل الميلاد، والمؤكد أنه عندما قدم الإسرائيليون إليها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد كان الشعب الموجود أصلا شعبا عربيا أخذ منه الإسرائيليون لغته ومظاهر كثيرة من ديانته وحضارته.
يعود أقدم أثر يحمل اسم مدينة أوروسالم إلى الفترة ما بين 2000ق.م.-1900ق.م.، وقد عثر على هذه القطعة الأثرية عام 1926م ويظهر الاسم مرة أخرى في إحدى الرسائل التي تم اكتشافها ضمن مجموعة من الألواح عام 1887 في تل العمارنة في مصر الوسطى، وتعود هذه الألواح إلى عام 1350ق.م. وفي هذه الرسائل يرد اسم ملك أورشليم عبد خيبا الذي وجه هذه الرسائل إلى فرعون مصر أمنحوتب الرابع أحد ملوك السلالة الثامنة عشرة والمعروف باسم أخناتون الداعي إلى التوحيد والذي حكم من 1375-1358ق.م. وفي هذه الرسائل يطلب ملك أورساليم عبد خيبا المساعدة من ملك مصر في صد هجمات أهل البادية "الخبيرو" وهم العبريون، ويقول نص الرسالة في جزء منه: "إن هذه الأرض، أرض أوروسالم، لم يعطني إياها أبي وأمي، ولكن أيدي الملك القوية هي التي ثبتتني في دار آبائي وأجدادي، ولم أكن أميرا بل جنديا للملك وراعيا تابعا للملك.. منحت ملكية الأرض أوروسالم إلى الملك إلى الأبد ولا يمكن أن يتركها للأعداء".
وتشير هذه الآثار والوثائق إلى أن المدينة عرفت بالاسم أوروسالم منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وتؤكد كتب العهد القديم هذا الاستخدام للاسم أوروسالم في وقت مبكر يعود إلى بدايات الألف الثاني قبل الميلاد.
فقد ورد لأول مرة في سفر التكوين من التوراة في الروايات المرتبطة بإبراهيم عليه السلام حيث يذكر النص التوراتي اسم ملكي صادق ملك شاليم، الذي كان في استقبال إبراهيم عليه السلام بعد أن عاد من معركة خلص منها قومه ومن بينهم لوط من الأسر حيث يبارك ملكي صادق إبراهيم "فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه.. وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزا وخمرا، وكان كاهنا لله العلي وباركه وقال مبارك إبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض، ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك".
ويتضح من هذا أن الاسم أورشليم الذي أصبحت المدينة تعرف به من بين أسماء متعددة اسم عربي كنعاني، وليس اسما عبريا كما يتبادر إلى الذهن، فقد تم تداول هذا الاسم منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد قبل أن يظهر العبريون، وقبل أن تعرف اللغة العبرية في التاريخ، فالكلمة عربية كنعانية ويشير الدكتور أحمد سوستة إلى ضرورة الاعتزاز بهذه التسمية فهي ليست تسمية يهودية كما يدعي اليهود، وقد أورد شعرا جاهليا للأعشى قيس استخدم فيه التسمية أوريشليم، وفي هذا يقول د. حسن ظاظا :"اسم أورشليم ليس عبريا أصيلا، فقد كانت تحمل هذا الاسم قبل دخول العبريين إليها بشهادة نص تل العمارنة، وبدليل أن اليهود وجدوا صعوبة في كتابة اسمها باللغة العبرية "يروشالايم" فهذه الياء الواقعة قبل الميم الأخيرة لم تكن تثبت في الكتابة العبرية، وقد كتبت بدونها في أسفار العهد القديم 606 مرة وكتبت بها ست مرات فقط، ولذلك نص علماء التلمود على وجوب كتابتها بلا ياء (التوسفتا، كتاب الصوم تعنيت16/5)".
وهناك اتفاق بين العلماء على أن الجزء الأخير من التسمية وهو ساليم وشاليم أو شلم في بعض النصوص هو اسم لإله كنعاني قديم معناه السلام أو السلامة، أي إله السلام أو إله السلامة، وأن المدينة كانت مكرسة لعبادة إله السلام، قبل وصول العبريين إليها، وقد اختلف في تفسير معنى الجزء الأول من التسمية فقد ترجمت أور بمعنى موضع أو مدينة، فيصبح الاسم مركب "أورشسالم" بمعنى مدينة السلام، أو موضع عبادة إله السلام كما فسرت بمعنى ميراث، فيصبح المعنى ميراث السلام.
وقد نسب اليهود إلى إبراهيم تسميتها "يرأه" بمعنى الخوف، بينما سماها نوح عليه السلام شليم بمعنى السلام فنحتوا تسمية مركبة "يرأة شلم" بمعنى الخوف والسلام، وهناك رأي آخر يرى أن يرو تعني إله واسم المدينة إله السلام.
وقد سميت المدينة بعدة أسماء أخرى من بينها الاسم القديم يبوس نسبة إلى اليبوسيين وهم جماعة أو قبيلة من قبائل الكنعانيين، وقد ورد ذكر اليبوسي في التوراة على أنه من ولد كنعان الذي اعتبرته التوراة ابنا لحام بن سام، وهي نسبة خاطئة لم يقبلها معظم الباحثين، وفي هذا يقول النص التوراتي: "وبنو رحام كوش ومضرايم وفوط وكنعان.. وكنعان ولد صيدون بكره وحثا واليبوسي والأموري والجرجاشي والحوي والعرقي والسيني والاوروادي والصماري والحماتي، وبعد ذلك تفرقت قبائل الكنعاني وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة وحينما تجيء نحو سدوم وعمورة وأدامة وصبوييم إلى لاشع".
واليبوسيون هم سكان أورشليم الأصلييون ، وقد تكرر ذكرهم على هذا الوضع في كتاب العهد القديم، وقد ظلوا يسكنون المدينة حتى عصر داود عليه السلام الذي تركهم يعيشون فيها بعد فتحه لها، ولم يتمكن الإسرائيليون من طردهم من المدينة، ففي يوشع 15: 63 يرد: "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم" وفي مكان آخر يرد: "وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم".وقد ورد ذكر يبوس كاسم لأورشليم في العهد القديم :"فلم يرد الرجل أن يبيت بل قام وذهب إلى مقابل يبوس، وهي أورشليم.. وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جدا قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا". ويشير هذا النص إشارة واضحة وصريحة إلى كون أورشليم مدينة يبوسية كنعانية غريبة على الإسرائيليين وليس بها أحد منهم، وقد ورد اسم يبوس في بعض المصادر المصرية القديمة حيث أسماها الفراعنة يانيثو يابيثي، وهو تحريف للاسم يبوس.
وكما أن التسمية أورساليم عربية كنعانية، وكذلك التسمية يبوس، فإن الاسم صهيون الذي ورد في العهد القديم وشاع حديثا في الحركة التي أخذت اسم الصهيونية نسبة إلى صهيون، هذا الاسم هو أيضا كنعاني أطلقه الكنعانيون على قلعتهم الحصينة الواقعة على الرابية الجنوبية الشرقية من مدينتهم أوروساليم، فقد سميت هذه الرابية حصن صهيون بواسطة الكنعانيين، وقد غير داود هذه التسمية وأطلق على الحصن اسم مدينة داود، في صموئيل الثاني نقرأ: "كان دود ابن ثلاثين سنة حين ملك، وملك أربعين سنة في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا، وذهب الملك ورجاله إلى أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض فكلموا داود قائلين لا تدخل إلى هنا ما لم تنزع العميان والعرج أي لا يدخل داود إلى هنا، وأخذ داود حصن صهيون، وهي مدينة داود.. وأقام داود في الحصن وسماه مدينة داود، وبنى داود مستديرا من القلعة فداخلا ويرد الاسمان "ساليم" و"صهيون" معا في المزمور 76 مما يشير إلى ارتباطهما وقداستهما، ويلاحظ أن الاسم ساليم ورد بحرف السين وليس بحرف الشين المعهود في الاستخدام العبري بما يشير إلى الأصل العربي الكنعاني "الله معروف في يهوذا اسمه عظيم في إسرائيل، كانت في ساليم مظلته ومسكنه في صهيون" كما يلاحظ أن الفعل كان مستخدم في صيغة الماضي وذلك يشير إلى أن الحديث عن الماضي المدينة وليس عن تسميتها الحديثة في عصر داود ويلاحظ أيضا أن صيغة ساليم كانت لا تزال مستخدمة على عهد المسيح عليه السلام، ففي إنجيل يوحنا: "وكان يوحنا أيضا تعمد في عيني نون بقرب ساليم لأنه كان هناك مياه كثيرة".
وفي عصر داود عليه السلام سميت أورساليم أو يبوس باسم مدينة داود ربما في محاولة العهد القديم منها الموضع لتغيير الاسم الكنعاني في أوروساليم ويبوس، وقد وردت هذه التسمية الجديدة في مواضع عديدة في الذي يشير إلى تسمية "حصن صهيون" بمدينة داود "وأخذ داود حصن صهيون، وهي مدينة داود... وأقام داود في الحصن وسماه مدينة داود". وفي موضع آخر ترد ثلاثة أسماء في وقت واحد للمدينة: الاسمان القديمان أورسليم ويبوس والاسم الجديد الذي أطلق عليه حصن صهيون: "وذهب داود وكل إسرائيل إلى أورشليم أو يبوس وهناك اليبوسيون سكان الأرض، وقال السكان يبوس لداود لا تدخل إلى هنا، فأخذ داود حصن صهيون هي مدينة داود... وأقام داود في الحصن لذلك دعوة مدينة داود، وبنى المدينة حواليها من القلعة إلى ما حولها ويوآب حد سائر المدينة"، ويبدو من هذا الوصف أن داود بنى مدينته في حصن صهيون القلعة الكنعانية الواقعة على التل الجنوبي الشرقي من أورشليم ثم توسعت مدينة داود لتشمل المناطق المحيطة بالقلعة، ومن الواضح أيضا أن أورشليم كمدينة تحتوي مدينة داود هذه كما يوضح النص التالي: " حينئذ جمع سليمان شيوخ إسرائيل إلى أورشليم لإحضار تابوت عهد الرب من مدينة داود، وهي صهيون"، ومع ذلك فقد طغى الاسم أورساليم القديم على التسمية الجديدة "مدينة داود" والتي يفهم أنه على الرغم من أنها أطلقت على جزء من المدينة أورساليم أصبحت فيما بعد تشير إلى أورساليم ذاتها، فمدينة أورساليم هي مدينة داود.
فترة إستقلال إسرائيل ويهودا
تدخل أورشليم في عصر مملكة داود وسليمان المتحدة وفي عصر المملكة المنقسمة في فترة من أشد فترات تاريخ أورشليم اضطرابا من الناحية السياسية كما أن صورتها الدينية تتسم بالازدواجية التي تتراوح بين كونها المدينة المقدسة والمدينة النجسة الزانية كما تصورها مؤرخو العهد القديم في فترة الانقسام.
فحتى نهاية عصر القضاة في القرن التاسع قبل الميلاد وهو العصر السابق على عصر شاؤول ومملكة داود وسليمان من بعده مباشرة، وكانت مدينة أوروساليم مدينة عربية كنعانية خالصة تحمل الاسمين معا أورساليم ويبوس، ويؤكد سفر القضاة على حقيقتين أساسيتين: الأولى أنه لم يكن هناك ملك في بني إسرائيل، وفي تلك الأيام حين لم يكن ملك في إسرائيل " .. " فسار من هناك بنو إسرائيل في ذلك الوقت كل واحد إلى سبطه وعشيرته وخرجوا من هناك كل واحد إلى ملكه، في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينيه".
أما الحقيقة الثانية فهي أن حيث يقول سفر القضاة: "وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل كان رجل لاوي متعربا في عقاب جبل ارايم... فلم يرد الرجل أن يبيت بل قام وذهب وجاء إلى مقابل يبوس، وهي أورشليم... وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جدا قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده، لا نميل على مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا نعبر إلى جعبة.. ونبيت جعبة أو في الرامة".
وفي نهاية عصر القضاة يدخل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مرحلته الدامية التي ستؤدي فيما بعد إلى نهاية عصر القضاة، ودخول الإسرائيليين في عصر الملكية الموحدة بعد توحيد قبائل بني إسرائيل والذي حكم خلاله ثلاثة ملوك فقط هم شاؤول وداود وسليمان لكي تنقسم المملكة بعد موت سليمان إلى مملكتين إحداهما إسرائيل في شمال فلسطين والثانية يهوذا في جنوب فلسطين، وتشير العديد من نصوص سفر القضاة التي تسلط الفلسطينيين وسيادتهم على الإسرائيليين، ويعود هذا الصراع الذي نشأ بين الكنعانيين وغيرهم من القبائل والجماعات العربية الساكنة في فلسطين وبين الإسرائيليين القادمين مع يشوع من شبة جزيرة سيناء بعد الخروج من مصر إلى أن هذه الجماعات الإسرائيلية بدأت في التسلل إلى أرض كنعان والدخول إليها بوسائل عسكرية أحيانا وبوسائل سليمة أحيانا أخرى، وقد بدأت هذه الجماعة في الدخول إلى أرض كنعان بقيادة يشوع بعد موت موسى عليه السلام والذي مات قبل أن يدخل أرض كنعان حسب رواية سفر التثنية: "وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل بنو إلى رأس الفسجة الذي قبالة أريحا فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان...، وقال الرب هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلا لنسلك أعطيها قد رأيتك إياها بعينك ولكنك إلى هناك لا تعبر، فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب... ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم" ويجب أن نذكرها أن سفر التثنية من الكتاب اليهودية المتأخرة الموضوعة خلال القرن السادس قبل الميلاد أي بعد موت موسى عليه السلام بسبعة قرون كاملة، وحول هذا العهد المعطى لموسى عليه السلام والمجدد للعهود السابقة المعطاة لإبراهيم وإسحاق ويعقوب يدور اللاهوت الإسرائيلي المتأخر الذي فهم العهد فهما بحتا في أنه يعني الأرض لا العهد الديني الأخلاقي الذي نصت عليه رسالات أنبياء بني إسرائيل والذي طالما نقضه بنو إسرائيل فاستحقوا العقاب المتكرر على ذلك، ويعتبر يشوع وفقا لهذا الفهم اللاهوتي الإسرائيلي هو المنفذ الحقيقي للوعد المعطى لموسى عليه السلام، وكان بعد موت موسى عيد الرب أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلا: "موسآ عبدي قد مات، فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل، كل موضع تدوب بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى، من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات جميع أرض الجشيين، وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم". وتكملة لهذه الهوية الدينية السياسية المتأخرة يبدأ الصراع مع سكان الأرض الأصليين: "فقال يشوع لبني إسرائيل تقدموا إلى هنا وطرد... وطرد يطرد من أمامكم الكنعانيين والحيثيين والحوريين والفريزيين والجرجاشييين والأموريين واليبوسيين". وعبور يشوع بالإسرائيليين نهر الأردن يصور على أنه عبور ديني مؤكد بمعجزة إلهية مثلما عبر الإسرائيليون مع موسى نهر سوف: "على اليابسة عبر إسرائيل هذا الأردن، لأن الرب إلهكم قد يبس مياه الأردن من أمامكم حتى عبرته كما فعل الرب إلهكم ببحر سوف الذي يبسه من أمامنا حتى عبرنا، لكي تعلم جميع شعوب الأردن يد الرب أنها قوية لكي تخافوا الرب إلهكم كل الأيام... وعندما سمع جميع ملوك الأموريين الذين في عبر الأردن غربا وجميع ملوك الكنعانيين الذي على البحر أن الرب قد يبس مياه الأردن.. ذابت قلوبهم ولم يتبقى فيهم روح بعد ..". وتندلع الحروب بين هذه القبائل والشعوب العربية من أموريين وموآبيين وكنعانيين.
أما عن وضع أورشليم خلال هذا الصراع فقد كانت المدينة تحت حكم أدوني صادق.
وقد بذل ملك أورشليم الكنعاني جهودا كبيرة لوقف تقدم الإسرائيليين بزعامة يوشع: "فلما سمع أدوني صادق ملك أورشليم أن يشوع قد أخذ عاي أرسل أدوني صادق ملك أورشليم إلى هوهام ملك حبرون وفرآم ملك يرموت ويافا ملك لخيس ودبير ملك عضلون يقول اصعدوا إلي وأعينوني فنضرب جبعون لأنها صاحت يشوع وبني إسرائيل فاجتمع ملوك الأموريين الخمسة ملك أورشليم وملك حبرون وملك برموت وملك لخيش وملك عجلون وصعدوا هم وكل جيوشهم ونزلوا على جبعون وحاربوها".
وهكذا يرأس ملك أورشليم هذا التحالف ضد يوشع وبني إسرائيل وحلفائهم، ولكنهم ينهزمون ولا يعلم مصير أورشليم سوى أن ملكها تم قتله مع بقية الملوك المتحالفين حين قام يشوع بتقسيم الأراضي التي وقعت تحت سيادة الإسرائيليين، وقعت أورشليم في قرعة سبط بني يهوذا: "وقد بقيت أرض كثيرة جدا للامتلاك.. إنما اقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكا كما أمرتك.. وكانت القرعة بسبط يهوذا حسب عشائرهم فصعد التخم في وادي ابن هنوم إلى جانب اليبوسي من الجنوب، وهي أورشليم".
ورغم هذه القسمة التي أوقعت أورشليم في نصيب بني يهوذا يشير سفر يشوع إشارة صريحة إلى أن أورشليم لم تكن خالصة لليهوذيين من بني إسرائيل حيث لن يتمكن اليهوذيون من طرد السكان الأصليين: "وأما اليبوسيون الساكنون في أروشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم"، وكما حدث هذا في أورشليم كذلك حدث في جازر المدينة الكنعانية: "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيدا تحت الجزية". ونفس الشيء يحدث مع بني منسى من الإسرائيلين: "ولم يقدر بنو منسى أن يملكوا هذه المدن فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض وكان لما تشدد بنو إسرائيل أنهم جعلوا الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردوهم طردا".
وهكذا كان الحال إلى أن مات يشوع وهو وضع يشير إلى تحقق السيادة لبني إسرائيل على أورشليم ولكن دون أن يتمكنوا من طرد سكانها الأصليين من اليبوسيين الكنعانيين فقبلوا منهم الجزية.
ويستمر الصراع حول أورشليم في عصر القضاة بعد موت يشوع: "وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل"، ومع استمرار الصراع ورغم هذا التخريب الذي لحق بأورشليم لم يتمكن الإسرائيليون من طرد اليبوسيين: "وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيون سكان أورشليم فسكن اليبوسيون مع بنو بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم"، وكان هذا هو وضع الكنعانيين في البلدان الأخرى جازر وقطرون وعكو وصيدون وغيرهم. وانتهى الأمر بسكن الإسرائيليين على اخلاف قبائلهم وسط الكنعانيين: "وإفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر.. ولم يطرد آشي سكان عكو ولا سكان صيدون .. فسكن الآشييون في وسط الكنعانيين سكان الأرض لأنهم لم يطردوهم.. ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس.. بل سكن وسط الكنعانيين سكان الأرض..".
يعتبر العصر الحديدي أكثر العصور جدلاً وأكثرها عرضة للتلفيق والتزوير، وقد مرت فلسطين في هذا العصر بتحولات اقتصادية واجتماعية جذرية كان من شأنها أن تعيد البنية الحضارية والسياسية، وتنهي المرحلة الأمورية والكنعانية.
فقد شهد غرب فلسطين الساحلي استيطان جماعات "الفستو" الإيجية التي اختلطت بالتراث الكنعاني وذابت فيه، والتي جاء منها اسم "فلسطين". وأما شمال فلسطين فقد شهد تدفقاً زراعياً كنعانياً، وحافظ على الهوية الكنعانية. وفي الوسط استقرت القبائل البدوية التي حاولت انتقاء ما يحلو لها من العقائد الكنعانية في سبيل تكوين هوية خاصة بها دون جدوى، فقد ظل التراث الكنعاني مهيمناً.
وتظهر الآثار في القرن العاشر والتاسع قبل الميلاد النشاطات الواسعة للبناء والعمران، وهو ما يشير إلى بقائها مدينة يبوسية كنعانية آثارياً، وعدم وجود ما يسمى "المملكة الموحدة" لإسرائيل ويهوذا، وعدم تميز القدس كمدينة خارجة عن السياق الكنعاني اليبوسي كأن تكون عبرية أو يهودية.
وكانت مدينة دولة إسرائيل كما تبدو في الآشوري العائد إلى عصر الملك شلمنصر الثالث (859-824 ق.م.) مدينة كنعانية، ولم تكن عبرية الهوية أو توراتية الدين.
وفي القرن السابع قبل الميلاد ظهر دين يهوذا الذي انفصل عن الديانة الكنعانية اليبوسية على يد الملك يوشيا الذي عثر على سفر الشريعة.
وتعرض أهل يهوذا وتحديداً أهل أورشليم للسبي البابلي الأول على يد نبوخذ نصر الثاني، وكانوا في أولى خطواتهم لتكوين دين خاص بهم وهو الدين اليهوذي وليس اليهودي، وأما الدين اليهودي فقد تكون في العصر الحديدي الثالث أثناء الهيمنة الفارسية على الشرق الأدنى القديم.
في عام 586 ق.م تعرضت القدس للتدمير وحدث السبي البابلي الثاني، وأغلب سكان القدس اقتلعوا من أرضهم وهجروا إلى أرض بابل، ولم يكن التدمير للقدس من قبل بابل متعلقاً بأية مسألة دينية.
وظهرت فكرة الشتات مع السبي البابلي وليس مع السبي الآشوري لأن السبي البابلي طال عاصمة يهوذا وأهلها الذين سيشكلون الدين اليهودي فيما بعد، والسبي الآشوري طال مدينة السامرة، وهذه الفترة كانت بداية تدوين التراث الديني (المرويات التوارتية) وظهور الأنبياء الذين بنوا الأسس الأولى للدين اليهودي، ثم تطورت كلمة الشتات وأصبحت تطلق على كل مجتمع يهودي خارج فلسطين.
ولم تعد القدس مدينة للمجتمع اليهودي إلا لفترات قليلة جدا بعد السبي الذي كان فيه مجتمع القدس, ولم تكن مدينة سياسية واجتماعية لليهود، وكانت هذه المدينة مثل باقي مدن فلسطين مكاناً لهجرة الناس ولقائهم من جميع أرجاء فلسطين وما حولها.
وسقطت بابل عام 539 ق.م. بيد [قورش الثاني]] ملك الفرس، وأمر بإعادة أهل السبي إلى القدس ويهوذا، وكان أهل السبي خليطاً من الأقوام يعكس طبيعة سكان أهل القدس، وكان يقودهم زربابل وكانت أول أعمالهم بناء بيت الرب) أو الهيكل.
وظهر النبيان حجي وزكريا وبشرا بملوكية زربابل وبأنه المسيح المنتظر، وقد عاصر المؤرخ اليوناني هيرودوتس أحداث ما بعد السبي والعودة، ولم يذكر أي إشارة إلى اليهود وعودتهم وبناء الهيكل كما تقول المرويات التوراتية.
فترة إسرائيل واليهود (بيت داوود) القديمة
هكذا تشير نصوص العهد القديم إلى عدم قدرة القبائل الإسرائيلية على القضاء على الكنعانيين وقبولهم في النهاية الحياة وسط الكنعانيين الأمر الذي أدى في النهاية إلى اندماج الإسرائيليين في الكنعانيين وفي وقت مبكر إذ لم يتمكن البدو الإسرائيليون من مقاومة الحضارة الكنعانية ولا من مقاومة الوقوع تحت التأثير الديني الكنعاني: "وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذي حولهم ، وسجدوا لها وأغاظوا الرب وتركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروت، فدفعهم بأيدي نهابين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم.. وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم.. وقضاتهم أيضا لم يسمعوا بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها"، ولم يتوقف الأمر عند حد الوقوع في عبادة الإلهة الكنعانية ، ولكنهم اندمجوا اجتماعيا في الكنعانيين ووصل هذا الاندماج الاجتماعي إلى حد الزواج من الكنعانيات: "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم فعمل بنو إسرائيل الشرفي عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسوارتي.. والعشاروت وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين وبيد بني عمون ..ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة".
ويشترك في هذا الاختلاط بالكنعانيين والفلسطينيين أكابر بني إسرائيل، فهذا شمشون يختار لنفسه زوجة من بنات الفلسطينيين: "ونزل شمشون إلى تمنة ورأى امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فصعد وأخبر أباه وأمه.. فالآن خذاها لي امرأة .. وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل"، ويروي سفر راعوث قصة زواج اثنين من أبناء يهوذا بامرأتين موآبيتين أيام حكم القضاة.
ومن بين الأمور التي يتأثر فيها الإسرائيليون بالكنعانيين والفلسطينيين وغيرهم التأثر بنظام الحكم عند هذه الشعوب، وقد وضح هذا التأثير في مطالبة نبيهم صموئيل بأن يجعل لهم ملكا تقليدا للشعوب المحيطة بهم. ومن المعروف أن النظام الذي كان سائدا حتى ذلك الوقت هو نظام القضاة الذين كانوا يحكمون في بني إسرائيل فيقضون لهم ويديرون شؤونهم المختلفة ويتولون قيادة حروبهم: "وكان لما شاخ صموئيل اخه جعل بنيه قضاة لإسرائيل... فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة، وقالوا له هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك، فالآن اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل إذ قالوا اعطنا ملكا يقي لنا وصلى صموئيل إلى الرب فقال الرب لصموئيل اسمع لصوت الشعب فيكل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم.. ولكن أشهدن عليهم وأخبرهم بقضاء الملك الذي يمتلك عليهم.".
ومن الواضح النظرة السياسية السابقة على قيام الملكية في إسرائيل نظرة رافضة لنظام الملكية، فقد سبق أن رفض القاضي جدعون أن يعين نفسه ملكا أو أن يعين عليهم أحد أبنائه ملكا: "وقال رجال إسرائيل لجدعون تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك قد خلصتنا من يد مديان ، فقال لهم جدعون لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم".
ويشير رد صموئيل أيضا إلى رفض فكرة الملكية والحكم الملكي الوراثي ، ويستند هذا الرفض إلى الصفة الدينية الثيوقراطية التي كان عليها اتحاد القبائل الإسرائيلية في عصر القضاة، والذي ينتهي بصموئيل الذي يعتبر آخر القضاة في تاريخ بني إسرائيل، فقد كان أساس هذا الاتحاد دينيا وليس سياسيا لأن القبائل التي أعلنت الولاء ليهوه كونت اتحادا دينيا حول الإله المحارب وحول اعتقاد عام مرتبط بشريعة مقدسة وبتأثير من الحضارة الكنعانية بدأت عملية توطين عبادة يهوه وتعديلها في اتجاه يؤكد تأثير الدين الكنعاني الزراعي ، فبعد المكاسب التي حققتها القبائل الإسرائيلية على حساب الكنعانيين والتي نتج عنها أن اتباع يهوه أصبحوا أصحاب أرض انتزعوها من أصحابها الكنعانيين والفلسطيين وغيرهم.. أصبحت الحاجة ماسة إلى تغيير النظام السياسي بهدف الدفاع عن المكاسب الاقتصادية فبدأت في الظهور فكرة الملكية تقليدا للكنعانيين واستجابة لحاجة اقتصادية ويرفض جدعون وصموئيل هذا الاتجاه الجديد لما فيه من رفض مباشر لحكم يهوه وملكه الاتجاه إلى نظام الملك السائد بين الشعوب الأخرى في الشرق الأدنى، وقد أدت الظروف والضغوط المواتية إلى حدوث هذا التحول في تاريخ الإسرائيليين من اتحاد القبائل المرتبط بعبادة يهوه إلى النظام الملكي المدني الذي يسعى إلى المحافظة مع المكاسب الإقليمية والاقتصادية التي تحققت.
ومن أهم هذه الضغوط استقرار الفلسطينيين على الساحل الفلسطيني وتقدمهم إلى المناطق الداخلية وإيقاعهم الهزيمة بالإسرائيليين مهددين الاتحاد القبلي: "غدا في مثل الآن أرسل إليك رجلا من ارض بنيامين فامسحه رئيسا لشعب إسرائيل فيخلص شعبي من يد الفلسطينيين"، وقد استولى الفلسطينيون أيضا على التابوت ودمروا معبد شيلوه ، وأصبحت الحاجة ملحة إلى تعيين ملك يحكم باسم يهوه ويقود إسرائيل في حروبها: "فأبى الشعب أن يسمعوا بصوت صموئيل وقالوا لا بل يكون علينا ملك فنكون نحن أيضا مثل سائر الشعوب ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا"، فيستجيب صموئيل مضطرا وغير مقتنع ومحاولا في نفس الوقت عدم السماح للملك المعين شاؤول بالجمع بين الأمور الدنيوية والدينية حيث احتفظ صموئيل بإدارة شؤون الدين.
وفي إحدى فقرات صموئيل الأول إشارة إلى ندم اليهود على تعيين شاؤول ملكا، ويشتم منه ندم إلهي على نظام الملكية ذاته: "والرب ندم لأنه ملك شاؤول على إسرائيل" وفي موضع آخر: "وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاؤول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي"، وكذلك: "لنك رفضت كلام الرب رفضك من الملك... لأنك رفضت كلام الرب فرفضتك الرب من أن تكون ملكا على إسرائيل."
وهكذا تعددت التأثيرات الكنعانية على حياة الإسرائيليين الذين قدموا إلى أرض كنعان من مصر بعد خروج موسى عليه السلام بهم فقد وقعوا تحت التأثير الديني والسياسي والحضاري ببيئته الكنعانية، واندمجوا فيها اندماجا تاما، واخذوا عنها نظامها السياسي، وتحولوا من نظام الحكم القبلي الذي اعتمد على القضاة في إدارة شئون السلم والحرب إلى نظام الدولة بداية بشاؤول ثم وجود سليمان عليه السلام.
نشأة اللاهوت الأورشليمي
بعد أن اتخذ داود مدينة أورشليم عاصمة له بدأ في الظهور فكر لاهوتي يربط المدينة بداود ويؤكد على الاختيار الإلهي لداود وأورشليم، أصبحت فيما بعد تشير إلى أورشليم ذاتها فقد ورد في العهد القديم على لسان سليمان: "مبارك الرب إله إسرائيل الذي كلم بفمه داود أبي وأكمل بيديه قائلا منذ يوم أخرجت شعبي من أرض مصر لم أختر مدينة من جميع أسباط إسرائيل لبناء بيت ليكون اسمي هناك ولا اخترت رجلا يكون رئيس لشعبي إسرائيل، بل اخترت أورشليم ليكون اسمي فيها واخترت داود ليكون على شعبي إسرائيل".
ويشير هذا النص إلى بداية الفكر اللاهوتي الذي ظهر حول أورشليم ليحولها بعد استيلاء داود عليها بناء سليمان للهيكل منها إلى المدينة المقدسة للإسرائيليين، المدينة التي يسكنها الرب في البيت الذي بني له باسمه والذي كان في نفس الوقت هو بيت الملك حتى يصطبغ الحكم بالصبغة الدينية، ويصبح الملك يحكم باسم الرب ومن بيته وحتى يجتمع في شخص الملك صفة الملك والكاهن: "وكان لما أكمل سليمان بناء بيت الرب وبيت الملك"، وفي موضع آخر: "وبعد نهاية عشرين سنة بعدما بنى سليمان البيتين بيت الرب وبيت الملك"، ويؤكد هذا اللاهوت على الاختيار الإلهي لأورشليم وعلى مركزية العبادة فيها فهي ليست مجرد عاصمة سياسية لداود وسليمان ولكن شاء التفكير اللاهوتي المتأخر أن يحولها أيضا إلى المركز الديني الوحيد لبني إسرائيل: "ولأجل أورشليم التي اخترتها"، وأيضا: "لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل هاأنذا أمزق المملكة من يد سليمان أعطيك عشرة أسباط ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود ومن أجل أورشليم المدينة التي اخترتها في كل أسباط إسرائيل.. أورشليم المدينة التي اخترتها لنفسي لأضع اسمي فيها".
ويلاحظ أن هذا اللاهوت الأورشليمي يتطور في ظل ظروف غريبة وغير مواتية ولا يتناسب مع طبيعة الأحداث ولكنه التناقض الإسرائيلي الذي جعل الفكر اليهودي المتأخر الذي صاغ أسفار العهد القديم يبني لاهوت أورشليم في ظل ما سماه بعصيان داود وسليمان ونكثهما بالعهد والفرائض، وأول علامات التناقض في هذا اللاهوت الناشئ حول المدينة وحول داود أن الرب الذي اختار أورشليم مدينة له واختار داود على شعبه إسرائيل يمنع داود المختار من بناء بيت الرب: "ودعا داود سليمان ابنه وأوصاه أن يبني بيتا للرب إله إسرائيل وقال داود لسليمان: يا ابني قد كان في قلبي أن أبني بيتا لاسم الرب إلهي، فكان إلي كلام الرب قائلا قد سفكت دما كثيرا وعملت حروبا عظيمة فلا تبني بيتا لاسمي لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض أمامي، هو ذا يولد لك ابني يكون صاحب راحة وأريحة من جميع أعدائه حواليه لأن اسمه يكون سليمان فأجعل سلاما وسكينة في إسرائيل في أيامه هو يبني بيتا لاسمي، وهو يكون لي ابنا وأنا له أبا وأثبت كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد، الآن يا ابني ليكن الرب معك فتعلم وتبني بيت الرب إلهك كما تكلم عنك". وهكذا في الوقت الذي يختار فيه الرب داود يمنعه من بناء بيته لكثرة سفكه للدماء، ولحروبه الكثيرة والوجه الآخر للتناقض أن أورشليم التي ادعى كتاب العهد القديم اختيارها مدينة للرب مع اختيار داود... نفس هذه المدينة المختارة يعلن الرب عن رغبته في تدميرها بسبب ذنوب داود وآثامه على حد تعبير كتاب العهد القديم فيرسل الرب عليها ملاكا ليهلكها: "فجعل الرب وباء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع سبعون ألف رجل، وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها فندم الرب عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب كفى، الآن رد يدك.. فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك علي وعلي بيت أبي.. واستجاب الرب من أجل الأرض فكفت الضربة عن إسرائيل".
وليس هناك من تفسير لهذا التناقض في اختيار داود وأورشليم ورغبة الرب في تدمير أورشليم ورفضه أن يبني داود بيتا له سوى أن كتاب العهد القديم أرادوا أن يضعوا نهاية لاختيار داود ليفسحوا المجال أمام اختيار إلهي جديد لسليمان لحل محل داود، وليس هناك من وسيلة لإبقاء على الاختيار الإلهي لداود مع الاختيار الإلهي الجديد لسليمان، وقد آثر كتاب العهد القديم الوقوع في التناقض مع ما فيه من تشويه للعقيدة وللذات الإلهية التي نراها مترددة في اختيارها، ونادمة على أفعالها أما الاختيار الإلهي الجديد لسليمان فنص عليه العهد القديم وعلى لسان داود المعترف بإثمه والقابل لاختيار ابنه من عند الرب: "لقد كان في نيتي أن أبني بيتا يستقر فيه تابوت عهد الرب، ويكون موطئا لقدمي إلهنا، وقد جهزت ما يحتاجه هذا البناء من مواد. ولكن الله قال لي: لا تبن أنت بيتا لاسمي، لأنك رجل حرب وقد سفكت دما. إن الرب إله إسرائيل قد اصطفاني من كل بيت أبي ليجعلني ملكا على إسرائيل إلى الأبد، وذلك لأنه اختار سبط يهوذا للرئاسة، ثم اختار بيت أبي من بين بيوت يهوذا، وقد سر أن يفرزني من بين أبناء أبي ليوليني على ملك إسرائيل. ثم اصطفى ابني سليمان من بين أبنائي الكثيرين الذين رزقني بهم الرب، ليخلفني على عرش مملكة الرب، على إسرائيل. وقال لي: إن سليمان ابنك هو الذي يبني بيتي ودياري، لأنني اصطفيته لي ابنا وأنا أكون له أبا. فإن أطاع شرائعي وأحكامي وعمل بها كما هي عليه اليوم فإنني أثبت مملكته إلى الأبد.".
وسرعان ما يسقط هذا الاختيار الإلهي الجديد، فمثلما وقع داود في الإثم هكذا أيضا وقع سليمان، وهكذا يعلن الرب من جديد عن غضبه على مختاره سليمان، مما يضيف تشويها جديدا إلى الذات الإلهية وقع فيه كتاب العهد القديم في محاولاتهم المتكررة لتبرير تولية ملوكهم وإبدال بعضهم ببعض عن طريق الوسيلة القديمة البالية وهي وسيلة الاختيار الجديد الذي يلغي اختيارا قديما، وينتهي بنسبة الآثام والخطايا إلى المختارين، ونسبة التردد والندم إلى الرب وما ينطوي عليه ذلك من نقص في المعرفة وعدم معرفة بالسلوك المستقبلي لكل من داود وسليمان من قبل الرب، يقول العهد القديم في أمر وقع وقوله سليمان في الخطيئة الكبرى وهي اتباع آلهة أخرى وعلينا أن نتذكر أنا خطيئة موجهة إلى نبي: "وأولع سليمان بنساء غريبات كثيرات، فضلاً عن ابنة فرعون، فتزوج نساء موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات، وكلهن من بنات الأمم التي نهى الرب بني إسرائيل عن الزواج منهم قائلاً لهم: لا تتزوجوا منهم ولا هم منكم، لأنهم يغوون قلوبكم وراء آلهتهم. ولكن سليمان التصق بهن لفرط محبته لهن. فكانت له سبعمائة زوجة، وثلاثمائة محظية، فانحرفن بقلبه عن الرب. فاستطعن في زمن شيخوخته أن يغوين قلبه وراء آلهة أخرى، فلم يكن قلبه مستقيماً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. وما لبث أن عبد عشتاروث آلهة الصيدونيين، وملكوم إله العمونيين البغيض، وارتكب الشر في عيني الرب، ولم يتبع سبيل الرب بكمال كما فعل أبوه داود. وأقام على تل شرقي أورشليم مرتفعاً لكموش إله الموآبيين الفاسق، ولمولك إله بني عمون البغيض. وشيد مرتفعات لجميع نسائه الغريبات، اللواتي رحن يوقدن البخور عليها ويقربن المحرقات لآلهتهن فغضب الرب على سليمان لأن قلبه ضل عنه، مع أنه تجلى له مرتين، ونهاه عن الغواية وراء آلهة أخرى، فلم يطع وصيته."
هذه صورة سليمان مختار الرب في عيون كتاب العهد القديم والذي سرعان ما تخلوا عنه فاسقطوا اختياره بعد اتهامه بالشرك وحكموا على مملكته بالانقسام حتى بعده "لأنك انحرفت عني ونكثت عهدي، ولم تطع فرائضي التي أوصيتك بها، فإني حتماً أمزق أوصال مملكتك، وأعطيها لأحد عبيدك. إلا أنني لا أفعل هذا في أيامك، من أجل داود أبيك، بل من يد ابنك أمزقها. غير أني أبقي له سبطاً واحداً، يملك عليه إكراماً لداود عبدي، ومن أجل أورشليم التي اخترتها".
وضع أورشليم بعد انقسام مملكة داود وسليمان
انقسمت مملكة سليمان عيه السلام بعد موته إلى مملكتين إحداهما مملكة إسرائيل في شمال فلسطين وعاصمتها شكيم فالسامرة، والثانية مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم، والسبب الديني الذي يعطيه العهد القديم لانقسام المملكة هو ترك عبادة الإله الواحد يهوه وعبادة لآلهة متعددة "وحدث أن يربعام خرج من أورشليم، فالتقاه النبي أخيا الشيلوني في الطريق. وكان النبي يرتدي رداءً جديداً، ولم يكن سواهما في الحقل، فتناول أخيا الرداء الجديد الذي عليه ومزقه اثنتي عشرة قطعةً، وقال ليربعام: خذ لنفسك عشر قطعٍ، لأنه هكذا يقول الرب إله إسرائيل: هاأنا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباطٍ، ولا يبقى له سوى سبطٍ واحدٍ إكراماً لعبدي داود، ومن أجل أورشليم المدينة التي اخترتها من بين مدن إسرائيل. لأنه تخلى عني وسجد لعشتاروث إلاهة الصيدونيين، ولكموش إله الموآبيين، ولملكوم إله بني عمون، ولم يسلك في سبلي، ويصنع ما هو مستقيم في عيني، ولم يطع فرائضي وأحكامي كداود أبيه".
وبسبب انقسام المملكة تصبح أورشليم عاصمة للمملكة الجنوبية فقط وهي لا يتبعها سوى سبط يهوذا وحده الذي تبع بيت داود بينما ضمت المملكة الشمالية عشرة أسباط: "لم تبع بيت داود إلا سبط يهوذا وحده". وهو عقاب لبيت داود بسبب معصية سليمان: "واذل نسل داود من أجل هذا". ورغم النص على سبطا واحدا يتبع بيت داود فالعهد القديم يشير أيضا إلى تبعية سبط بنيامين لبيت يهوذا بعد الانقسام: "ولما جاء رحيعام إلى أورشليم جمع كل بيت يهوذا وسبط بنيامين .. ليحاربوا بيت إسرائيل يردوا المملكة لرحيعام بن سليمان".
وهنا يظهر مركز جديد ينافس أورشليم على الزعامة في بني إسرائيل حيث قام يربعام ملك إسرائيل الشمالية ببناء شكيم واتخذها عاصمة لدولته ، وقد خشي ريعام من أن يتسبب مركز أورشليم الديني لكل الإسرائيليين في عودة الملك إلى بيت داود فقام بإجراء بعض التغييرات التي تنهي مكانة أورشليم الدينية بالنسبة للشمالييين: "وبنى يربعام شكيم ي جبل إفرايم وسكن بها، ثم خرج من هناك وبنى فنوئيل، وقاتل يربعام في قلبه الآن ترجع المملكة إلى بيت داود إن صعد هذا الشعب إلى سيدهم إلى رحيعام ملك يهوذا وتقتلوني ويرجعوا إلى رحيعام ملك يهوذا فاستشار الملك وعمل عجلي ذهب وقال لهم، كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم، هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين اصعدوك من ارض مصر ووضع واحد في بيت إيل وجعل الآخر في دان، وكان هذا الأمر خطية وكان الشعب يذهبون إلى أمام أحدهما حتى إلى دان، وبنى بيت المرتفاعات وصير كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من بني لاوي، وعمل يربعام عيدا في الشهر الثامن في اليوم الخامس عشر من الشهر كالعيد الذي في يهوذا واصعد على المنتج.. فعمل عيدا لبني إسرائيل".
وقد اتضح من النص السابق أن يربعام اهتم ببناء عاصمته جديدة هي شكيم ثم أراد أن يحول الإسرائيليين عن أورشليم كمركز ديني به بيت الرب هيكل سليمان فأقام بيتين للعبادة الأول في بيت إيل والثاني في دان، ووضع عجلا ذهبيا في كل بيت منهما، وطلب من الإسرائيليين أن يقدموا ذبائحهم في بيت إيل وفي دان، أما التغيير الديني الجريء الآخر هو تعيين كهنة من غير سبط لاوي المختص بالكهنوت في بني إسرائيل، وإقامة عيد جديد يحل محل العيد القديم الذي يقام في أورشليم، وقد قصد من هذه التغييرات الدينية خلق مركز ديني جديد في الشمال يحل محل أورشليم بالنسبة للشماليين حتى لا يضطروا إلى الذهاب إلى أورشليم الأمر الذي يهدد مملكته سياسيا.
وتتعرض أورشليم في السنة الخامسة من ملك رحيعام بني سليمان عليها إلى غزوة مصرية: "وفي السنة الخامسة من ملك رحيعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شيء وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان."، وجدير بالذكر أن أم رحبعام بن سليمان عربية عمونية: "وأما رحيعام بني سليمان فهلك في يهوذا، وكان رحيعام ابن أحدى وأربعين سنة حين ملك وملك سبع عشرة سنة في أورشليم المدينة التي اختارها الرب لوضع اسمه فيها من جميع أسباط إسرائيل، واسم أمه نعمة العمونية.. وكانت حرب بين رحيعام ويربعام كل الأيام، ثم اضطجع رحيعام مع آبائه ودفن مع آبائه في مدينة داود".
ويبدو أن ترصة التي بناها بريعام لم تتمكن من منافسة أورشليم دينيا، لذلك قام عمري ملك إسرائيل ببناء مدينة جديدة لمنافسة أورشليم سياسيا ودينيا لأنها ستصبح فيما بعد المركز الديني المنافس لأورشليم على مدى تاريخ المملكة الشمالية وحتى سقوطها على يد الآشوريين عام 721ق.م.: "في السنة الواحدة والثلاثين لآسا ملك يهوذا ملك عمرى على إسرائيل اثنتي عشرة سنة، ملك في ترصة ست سنين، واشترى جبل السامرة من شامر بوزتنيني من الفضة وبنى على الجبل ودعا اسم المدينة التي بناها باسم شامر صاحب الجبل السامرة"، وهكذا تغيرت عاصمة الشمال من شكيم إلى ترصة إلى السامرة وقد ملك بعد عمرى ابنه آحاب الذي تأثر بعبادة زوجته إيزابل ابنة ملك الصيدونيين: "فعبد البعل وسجد له وأقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه ف السامرة".
وتتعرض أورشليم للغزو عدة مرات فقد صعد إليها جزائيل ملك أرام ، واضطر يهوآشي ملك يهوذا إلى أخذ جميع الأواني والأدوات المقدسة: "وكل الذهب الموجود في خزائن بيت الرب وبيت الملك وأرسلها إلى جزائيل ملك أرام فصعد عن أورشليم"، وفي عهد أمصيا ملك يهوذا تتعرض أورشليم للغزو مرة أخرى على يد لهوآش ملك إسرائيل الذي "جاء إلى أورشليم، وهدم سور أورشليم من باب أفرايم إلى باب الزاوية.. وأخذ كل الذهب والفضة وجميع الآنية الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك والهناء ورجع إلى السامرة". وفي عصور الملوك المتأخرين من ملوك إسرائيل الشمالية يبدأ الغزو الآشوري على يد تجلات بلاس ملك آشور ويتم سبي الإسرائيليين إلى آشور: "في أيام فقع ملك إسرائيل جاء تغلث فلاسر ملك أشور وأخذ عيون وآبل بعيت معكة ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد والجليل وكل أرض نعتالي وسباهم إلى آشور .. وصعد ملك آشور شلمنصر على كل الأرض وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين، في السنة التاسعة لهوشع (ملك إسرائيل) أخذ ملك آشور السامرة وسبى إسرائيل إلى آشور وأسكنهم في حكم وخابور نهر جوزان وفي مدن". ووفقا للنظام العسكري الآشوري فقد تم تفريغ السامرة من سكانها: "وأتى ملك أشور بقوم من بابل وكوث وعوا وحماة وسفراوايم وأسكنهم في مدن السامرة وعوضا عن بني إسرائيل فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها".
وأما أورشليم فنجوا مؤقتا من مصير السامرة إذ يضطر ملك آشور سنحاريب إلى الانسحاب قافلا إلى بلاده بسبب ظهور قوى داخلية في بلاد النهرين مهددة لملك آشور ومن أهمها القوة البابلية الجديدة، وتفنن اللاهوت الأورشليمي في إعطاء العلل الدينية والتبريرات الاهوتية لنجاة أورشليم من مصير السامرة، ويبدأ هذا اللاهوت بعرض التهديدات الآشورية لأورشليم في صورة التحدي الذي يعرضه ملك آشور إن كان إله أورشليم يستطيع أن يقوم بما لم تقوم به الآلهة الأخرى فيحمي أورشليم من آشور: "هل أنقذ آلهة الأمم كل واحد أرضه من يد ملك آشور، أني ىلهة حماة وأرفاد أين آلهة سفروايم وهنع وعوا، هل أنقذوا السامرة من يدي من كل آلهة الأراضي أنقذ أرضهم من يدي حتى ينقذ الرب أورشليم من يدي"، ويرسل حزقيا ملك يهوذا إلى النبي أشعيا يبحث عنده عن إجابة أو مخرج من هذا التحدي والتهديد الآشوري، ويأتي رد أشعيا: "لا تخف بسبب الكلام الذي سمعته الذي جدف على به غلمان ملك آشور .."، ويمضي هذا التفسير الديني لعودة سنحاريب إلى بلاده وعدم غزوه لأورشليم: "هاأنذا أجعل فيه روحا فيسمع خبرا ويرجع إلى أرضه وأسقطه بالسيف في أرضه"، ويتمادى المفسر الإسرائيلي المتأخر في تصوير موقف أورشليم من سنحاريب فنصورها رغم عفها الشديد في صورة المدينة المحتقرة المستهزئة بسنحاريب: "احتقرتك واستهزأت بك العذراء ابنة صهيون، ونحوك انغصت ابنة أورشليم راسها من غيرت وجدفت وعلى من عليت صوتا وقد رفعت إلى العلا عينيك على قدوس إسرائيل"، وينتهي هذا التفكير اللاهوت بطرح فكرة بقية إرائيل بمعنى أن أورشليم تنجو من الدمار لأن منها تخرج البقية التي تنجو من الغزو والتدمير وتكون بذرة جديدة لإسرائيل: "لأنه من أورشليم تخرج البقية والناجون من جيل صهيون.. لذلك هكذا قال الرب عن ملك أشور، لا يخل هذه المدينة ولا يرمي هناك سهما ولا يتقدم عليها بترس، ولا يقيم عليها مترسة، في الطريق الذي جاء فيه يرجع وإلى هذه المدينة ولا يدخل يقول الرب: واحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي".
أما قرار انسحاب سنحاريب وعودته إلى بلاده آشور فيصوره العهد القديم أنه تم على أثر هزيمة مريرة، وقعت بجيش آشور على يد ملاك الرب: "وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش أشور مائة ألف وخمسة وثمانين ألفا، ولما بكروا صباحا راجعا وأقام في نينوى"، بل إنه تقتل في بيته آاهة كما تنبأ أشعيا.
هكذا يصور الالهوت الاورشليمي نجاة أورشليم وسقوط جيش سنحاريب بواسطة ملاك الرب وعودة سنحاريب إلى نينوي بله ويتجاهل هذا الاهوت العوامل السياسية والعسكرية والظروف المتغيرة التي دفعت سنحاريب وجيشه إلى اتخاذ قرار الانسحاب والعودة.ومع ذلك سرعان ما ينسى واضع هذا الاهوت حول أورشليم المدينة وقداستها وانتصارها الإعجازي على جيش الإمبراطورية الأشورية ليتنبأ على المدينة بالدمار والخراب على يد بابل، ففي الإصحاح التالي مباشرة وفي عصر نفس الملك حزقيا الذي حدثت المعجزة الإلهية في عصره وعلى يد نفس النبي إشعيا الذي أعلن المعجزة نقرأ: "هو ذا تأتي أيام يحمل فيها كل ما في بيتك وما ذخره آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل، ولا يترك شيء يقول الرب، ويؤخذ من بيتك الذين تلدهم فيكونون خصيانا في قصر ملك بابل ففي الإصحاح التالي مباشرة وفي عصر منسي بن حزقيا الذي حدثت المعجزة الإلهية في عصره وعلى يد نفس النبي أشعيا الذي أعلن المعجزة نقرأ: "هو ذا تأتي أيام يحمل فيها كل ما في بيتك وما ذخره آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل ، ولا يترك شيء يقول الرب، ويؤخذ من بيتك الذين تلدهم فيكونون خصيانا في قصر ملك بابل وفي عصر منسى بن حزقيا... هاأنذا جالب شرا على أورشليم ويهوذا.. وأمد على أورشليم خيط السامرة.. وأمسح أورشليم كما يمسح واحد الصحن بمسحه وتعلبه على وجهه وأرفض بقية ميراثي وأدفعهم إلى أيدي أعدائهم فيكونون غنيمة ونهبا لجميع أعدائهم، لأنهم عملوا الشر في عيني وصاروا يغيظونني من اليوم الذي فيه خرج آباؤهم من مصر إلى اليوم."
وتناب أورشليم العديد من الاضطرابات خلال عصور ملوك يهوذا الضعاف قبل الغزو البابلي، ففي عصر منسي تسفك الدماء في المدينة: "وسفك أيضا منسي دما برا كثيرا جدا حتى ملأ أورشليم من الجانب إلى الجانب فضلا عن خطته التي بها جعل يهوذا يخطئ بعمل الشر في عيني الرب" وفيعهد يهوآجاز بني يوشيا يستمر فعل الشر رغم الإصلاحات الدينية التي قام بها أبوه يوشيا، الذي قتل على يد المصريين في أيام فرعون مصر نخو حين خرج يوشيا للقائه عند مجدو حين صعود على ملك أشور، وقد أسر الفرعون نخو يهوآجاز بن يوشيا ومنعه من أن يملك في أورشليم: "وأسره فرعون في ربلة في أرض حماة لئلا يملك في أورشليم، وغرم الأرض بمائة وزنة من الفضة ووزنة من الذهب وملك فرعون نخو الياقيم بن يوشيا عوضا عن يوشيا أبيه وغير اسمه إلى يهوياقيم وأخذ يهواحاز وجاء إلى مصر فمات هناك ودفع يهوياقيم الفضة والذهب لفرعون".
وأخيرا يقوم بنوخذ نصر ملك بابل يغزو يهوذا ويحاصر أورشليم ويصور مؤرخ العهد القديم هذا الغزو في صورة عقاب إلهي ليهوذا وملوكها على خطاياهم المتكررة: "صعد بنوخذنا جير ملك بابل فكان له يهوياقيم عبدا ثلاث سنين ثم عاد فتمرد عليه فأرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الموآبيين وغزاة بني عمون وأرسلهم على يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد عبيده الأنبياء" وفي عهد يهوياكيني بن يهوياقيم تقع أورشليم تحت الحصار البابلي: "في ذلك الزمان صعد عبيد بنوخذ ناصر ملك بابل إلى أورشليم فدخلت المدينة تحت الحصار وجاء بنو خذ ناصر ملك بابل على المدينة وكان عبيده يحاصرونها" ووفقا للسياسة البابلية يتم سبي أهل مدينة أورشليم إلى بابل و يستولي ملك بابل على خزائن الهيكل وبيت الملك: "وسبى كل أورشليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس عشرة آلاف مسبي وجميع الصناع والأقيات، لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض، و سبى يهوياكينى إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض سباهم من أورشليم إلى بابل وجميع أصحاب البأس سبعة آلاف والصناع والقيان ألف وجميع الأبطال أهل الحرب سباهم ملك بابل إلى بابل.
وتقع أورشليم من جديد تحت الحصار البابلي في عهد صدقيا حيث: "جاء نبوخذ ناصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ونزل عليها وبنوا عليها أبراجا حولها" ودخلت المدينة تحت الحصار إلى السنة الحادية عشرة للملك صدقيا: "وتتعرض المدينة لمجاعة شديدة ويهرب المقاتلون منها" اشتد الجوع في المدينة ولم يكن خبزا لشعب الأرض فثغرت المدينة وهرب جميع رجال القتال ليلا" ويهرب ملكها فتلحقه جيوش البابليني وتأسره إلى بابل.
ويقوم البابيليون بإحراق أورشليم وتشريد أهلها وسبيهم وتخريب الهيكل وحمل آنيته وأدواته إلى بابل: "وإحراق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء احرقها بالنار وجميع أسوار أورشليم مستديرا هدمها كل جيوش الكلدانيين مع رئيس الشرئ وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة والاريون الذين هربوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور سباهم بنوزرادان رئيس الشرط.. وأعمدة النحاس التي في بيت الرب كسرها الكلدانيون وحملوا نحاسها إلى بابل".
هكذا تم تدمير أورشليم بعد إحراقها وتدمير هيكلها ونقل آنيته وأدواته المقدسة إلى بابل، وتم سبي أهل أورشليم وساقتها إلى بابل، بينما هرب بقية السكان إلى مصر: فقام جميع الشعب من الصغير إلى الكبير ورؤساء الجيوش إلى مصر لأنهم خافوا من الكلدانية"، ويعلل المؤرخ الإسرائيلي المتأخر هذه الأحداث التي وقعت لأورشليم ولبيت الرب التعليل المعتاد وهو العقاب الإلهي للمدينة وأهلها وملوكها بسبب هجرهم عبادة يهوه ووقوعهم في العبادة الأجنبية: "فقال الرب إني انزع يهوذا أيضا من أمامي كما نزعت إسرائيل وأرفض هذه المدينة التي اخترتها أورشليم والبيت الذي قلت يكون اسمي فيه". وكما بدأ اللاهوت الأورشليمي بتقديس المدينة واختيارها مدينة لله واختيار داود انتهى برفض المدينة ورفض اختيارها ورفض بيت الرب الذي أقيم له فيها.
الفترة الأشورية الجديدة والبابلية الجديدة
الفترة الأخمينية
استمرت سيطرة اليهود على أورشليم من عهد داود حوالي سنة 1000 ق. م إلى أن فتحها نبوخذ نصر (بختنصر) في سنة 586 ق.م ودمرها ونقل السكان اليهود إلى بابل (السبي البابلي ) وبعد أن استولى الفرس على سورية وفلسطين سمح الملك كورش سنة 538 ق.م لمن أراد من الأسرى اليهود بالرجوع إلى أورشليم.
التاريخ القديم الكلاسيكي
تنص المخطوطات العبرانية على أن النبي داود دام حكمه لمملكة إسرائيل 40 عامًا، وبالتحديد حتى سنة 970 ق.م، وبعد وفاته خلفه ولده سليمان الذي حكم طيلة 33 عامًا،[6] وفي عهده تمّ تشييد هيكل المدينة على جبل موريا، بالإضافة إلى هيكل سليمان الشهير، الذي يلعب دورًا مهمًا عند اليهود، كونه يمثل المستودع الذي حُفظ فيه تابوت العهد وفقًا للمعتقد اليهودي. أصبحت القدس تُسمى بالمدينة المقدسة في عام 975 ق.م، وشكّلت عاصمة لمملكة إسرائيل الموحدة، وبعد وفاة سليمان انقسمت المملكة إلى قسمين شمالي وجنوبي وذلك بعد تمرد الأسباط العبرية الشمالية بسبط يهوذا الجنوبي الذي كان آل داود ينتمون إليه.[8] سُمي القسم الجنوبي بمملكة يهوذا في الجنوب، وأصبحت القدس عاصمة لها تحت قيادة رحبعام بن سليمان.[8] وفي سنة 587 ق.م، احتل الملك البابلي "نبوخذ نصّر الثاني" مدينة القدس بعد أن هزم آخر ملوك اليهود "صدقيا بن يوشيا"، ونقل من بقي فيها من اليهود أسرى إلى بابل بمن فيهم الملك صدقيا نفسه، وعاث في المدينة دمارًا وخرابًا وأقدم على تدمير هيكل سليمان، مما أنهى الفترة التي يُطلق عليها المؤرخون تسمية "عهد الهيكل الأول".
بعد 50 سنة من السبي إلى بابل، سمح الملك الفارسي قورش الكبير عام 538 ق.م لمن أراد من أسرى اليهود في بابل بالعودة إلى القدس وإعادة بناء الهيكل المهدم، فعاد عدد من اليهود إلى القدس وشرعوا ببناء الهيكل الثاني، وانتهوا من العمل به سنة 516 ق.م، في عهد الملك الفارسي دارا الأول، وعُرف فيما بعد بمعبد حيرود تيمنًا بملك اليهود حيرود الكبير الذي قام بتوسيعه.وحوالي سنة 445 ق.م، أصدر الملك الفارسي "أرتحشستا الأول" مرسومًا سمح فيه لسكان المدينة بإعادة بناء أسوارها،[13] واستمرت المدينة عاصمة لمملكة يهوذا طيلة العقود التي تلت. فقدت الإمبراطورية الفارسية فلسطين بما فيها القدس لصالح القائد والملك المقدوني، الإسكندر الأكبر، عام 333 ق.م، وبعد وفاته استمر خلفاؤه المقدونيون البطالمة في حكم المدينة، واستولى عليها في العام نفسه بطليموس الأول وضمها مع فلسطين إلى مملكته في مصر عام 323 ق.م. ثم في عام 198 ق.م، خسر بطليموس الخامس القدس ومملكة يهوذا لصالح السلوقيين في سوريا، بقيادة أنطيوخوس الثالث الكبير. حاول الإغريق أن يطبعوا المدينة بطابعهم الخاص ويجعلوا منها مدينة هيلينية تقليدية، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل سنة 168 ق.م، عندما قام المكابيين بثورة على الحاكم أنطيوخوس الرابع، تحت قيادة كبير الكهنة "متياس" وأبنائه الخمسة، ونجحوا بتأسيس المملكة الحشمونائيمية وعاصمتها القدس سنة 152 ق.م. استولى قائد الجيش الروماني "پومپيوس الكبير"، على القدس في عام 63 ق.م بعد أن استغل صراعًا على سدّة المُلك بين الملوك الحشمونائيمية، وبهذا ضُمت القدس إلى الجمهورية الرومانية.
فترة الممالك الهيلينية (البلطمية/السلوقية/الحشمونائيمية)
ظلت البلاد تحت الحكم الفارسي إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني سنة 332 ق.م، وتأرجحت السيطرة على أورشليم في عهد خلفائه البطالمة والسلوقيين وقد تأثر السكان في هذا العهد الهلينستي بالحضارة الإغريقية.
العصر الروماني المبكر (63 ق.م-135م)
تعود بداية تدخل الدولة الرومانيّة في شؤون المشرق منذ مطلع القرن الثّاني قبل الميلاد؛ لأن ضعف الدولة السلوقية كان بسبب الحروب الخارجيّة (وبخاصة في المناطق الشرقيّة النائية) والداخليّة، وما شهدته منطقة بلاد الشّام من اضطراب بسبب حروب المكابيين كما ذكر آنفاً، كما أن انتصار الرومان على أنطيوخوس الثالث Antiochus III (223-187 ق.م) في معركة مغنيزيا عام (190 ق.م) شجع الرومان على التدخل.
وكان المكابيون أقاموا علاقات خاصة مع روما قبل وصول جيوشها إلى فلسطين وسوريا. ومع ما كان لروما من ثقل ونفوذ في حوض البحر المتوسط الشرقي، فقد ظلت تدير الأُمور هناك من بعيد إلى سنة 65 ق.م.
ففي تلك السنة دخلت الجيوش الرومانيّة كليكيا Cilicia في طريقها إلى سوريا وفلسطين، وكانت هذه الجيوش تحت سلطة بومبي الذي اعتزم تصفية الدولة السلوقية ونشر الثقافة الرومانيّة في غرب آسيا (رومانيزيشن Romanization).
أرسل بومبي وكيلَه سكاوروس Scaurus إلى سوريا سنة 65 ق.م. وكما ذكر سابقاً، كان الصراع في تلك الأثناء دائراً على السلطة ما بين آخر أبناء ملوك السلالة الحشمونية أرسطوبولس الثّاني Aristobulus II(67-63 ق.م) مدعوماً من قبل الفريسيين ، وهركانوس الثّاني Hyrcanus II (63-40 ق.م) مدعوما من قبل الصدوقيين ، ومن الملك النبطي الحارثة الثالث الذي كاد ان يحتل المدينة ويدمرها لولا تدخل الرومان. لذلك كان الصراع متأججاً عند وفاة سالومة الكسندرا Alexandra Salome(76-67 ق.م)، إذ تعرضت الأُسرة الحاكمة للانحطاط وحتى الانحلال، وبالتّالي إعطاء بومبي الذريعة للسيطرة على القدس (الولاية اليهودية آنذاك) عام 63 ق.م، ووضع المملكة الحشمونية تحت الوصاية الرومانيّة، إذ أُسر أرسطوبولس الثّاني ونفاه إلى روما، فيما منح هركانوس الثّاني رتبة الكاهن الأعظم، دون الحصول على الّلقب الملكي الذي كان يطمح إليه.
ونتيجة للسيطرة على القدس حسب رواية فلافيوس يوسيفوس Flavius Josephus (37؟-101 م) في كتابه آثار اليهود (أقدميات اليهود) (Jewish Antiquities 14. 58-67)، تمّ تدمير المدينة وتخريبها بسبب الحصار الذي فرضه بومبي عليها ومحاولات أرسطوبولس للسيطرة على المدينة، وذلك بعد إطلاق سراحه في روما على يد بعض الرومان المنتفعين من ذلك، كما يروي يوسيفوس في كتابه المذكور سابقاً قيام السناتورSenator (مجلس الشيوخ الروماني) بتعيين غابينيوس Gabinius (55-57 ق.م) حاكماً ومنحه منصب القنصل الروماني العام لسوريا وفلسطين، إذ قدم من أجل مساعدة بومبي في حصار القدس (Ant 14. 82). وعندما ثار ألكسندر Alexander- ابن أرسطوبولس الثاني- ضد روما، اضطر غابينيوس إلى غزو المدينة مرة أخرى. واستولى ألكسندر على ثلاث قلاع (الكسندريوم Alexanderium " قرن صرطبة"، وهركانيوم Hyrcanium "خربة مرد"، وماكاريوس Machaerius " مكاور"). وكان غابينيوس قد حاصر القلاع الثلاث في وقت سابق، فيما طلب الكسندر السلم، لكن غابينويس لم يأخذ بطلبه، فدمر القلاع التي ذكرت آنفاً.
ومن أهم ما قام به غابينيوس: 1.تقسيم فلسطين إلى خمسة أقضية مسَتقلّة واحدها عن الآخر إدارياً، ولكل قضاء مجلس خاص به يطلق عليه اسم السنهدريم (Synedria)، وهي: أ- قضاء القدس: وتتبعه جبال القدس والخليل وأدوم (جنوب فلسطين). ب- قضاء أريحا: ويضّم السفوح الشرقيّة لجبال القدس وعقربة (شمال بيت المقدس) وما إليها. ج- قضاء جازر: التي كانت تدخل ضمن السفوح الغربيّة لمنطقة القدس ورام الله. د- قضاء صفورس (صفورية): وكان يشمل الجليل الشرقي. هـ- قضاء أماثوس (عماتا): البرية Pereaسابقاً (شمال شرق نهر الأردن). 2. إنقاص سلطة الولاية اليهوديّة بتجريد الكاهن هركانوس الثّاني من رتبته الملكية. 3. فرض ضرائب باهظة على السكان. 4. إعادة بناء عدد من المدن الهلنستية التي خربها المكابيون، مثل مدن: السامرة وبيسان وغزة.
وفي أثناء فترة تشكيل الحلف الثلاثي الذي قام في روما وضمّ كلاً من بومبي وقيصر Julius Caesar (100-44 ق.م) وكراسوس Marcus Licinius Crassus (115-53 ق.م)، جاء الأخير والياً على سوريا سنة 54 ق.م. وكان أكثر ما يهمه هو محاربة الفرس؛ ليضمن لنفسه مكاناً مساوياً، ولو نسبياً، لكل من بومبي وقيصر. لذلك نهب ولاية سوريا على أتمّ وجه؛ إذ قاد حملة عسكريّة عام 53 ق.م، لكنّه خسرها وقتل في المعركة التي خاضها مع العدو في كري Carrae أي في حران. وخلال الحرب الأهليّة دي بلو سيفيلي (De Bello Civili) ما بين قيصر وبومبي؛ انتصر الأول على الأخير في معركة فرسالياPharsalia عام 48 ق.م، وهرب بومبي إلى مصر، حيث اغتيل هناك.
لقد أعد قيصر ترتيبات إقليمية جديدة في فلسطين، فحسب رواية يوسيفوس في كتابه حروب اليهود (Jewish War, 203)، عُين انتيباترAntipater الآدومي حاكماً إدارياً على الولاية اليهوديّة ومعه أفراد العائلة الحشمونية أُمراء فيها. فقد أصبح ابنه فصايل Fasael أميراً على مدينة القدس، بينما هيرودس Herod The Great –الملقب بالكبير-أصبح أميراً على منطقة الجليل. إلا أن ترتيبات قيصر هذه لم تدم طويلاً، فقد اغتيل في منتصف آذار (مارس) سنة 44 ق.م، فيما قتل أنتيباتر مسموماً على يد منافسيه عام 43 ق.م. وأعقب ذلك في النصف الثّاني من القرن الأوّل قبل الميلاد قيام مملكة الفرس في بلاد ما بين النّهرين وما وراءها باجتياح بلاد الشام وفلسطين (40-37م) خلال الفوضى التي أعقبت اغتيال قيصر في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، إذ رحبت الأُسرة الحشمونية بالفرس ورشتهم، ونتيجة لذلك عين القائد الفرثي برزفرناس Barzapharnas أنتيجونوس متثياس Antigonus Mattathias (37-40 ق.م)- آخر ملوك السلالة الحشمونية وابن أرستوبولوس- حاكماً على الولاية اليهودية ومديراً لها باسم الفرس. وكان على هيرودس أن ينجو بنفسه. وأوّل مكان ذهب إليه حسب ما يروي يوسيفوس في كتابه حروب اليهود (War, 181) هو البتراء، عاصمة مملكة الأنباط، لأنّ أمّه كفرة Cypros كانت من الأُسرة العربيّة المالكة، ولم يلق ترحيباً من مالك الثّاني Malichus II (40-70 ق.م)، وذلك نزولاً على أمر الفرس. فذهب إلى كليوبترة في مصر حيث لقي صّداً للمرة الثّانية. وأخيراً ذهب إلى روما، إذ كسب صداقة ماركوس أنطونيوس Marcus Antonius (83-30 ق.م). وهكذا، فإنّ مجلس الشيوخ في روما أعلن الملك هيرودس ملكاً على الولاية اليهوديّة، ثمّ عاد هذا إلى فلسطين؛ ليحارب من أجل لقبه الجديد.
وكما ذكر في السّابق، فقد كان هيرودس قبل هربه يحكم الجليل، إذ بدأ حربه من هناك في سنة 39 ق.م. وبعد سنتين فرض حصاراً ناجحاً على القدس؛ واستمر ماركوس أنطونيوس في مصادقته. وخلال هذه الفترة أنهى هيرودس حكم الحشمونيين، وعندما هزم أنطونيوس في معركة أكتيوم Actium عام 31 ق.م، ذهب هيرودس إلى رودس Rhodes؛ من أجل مقابلة المنتصر أوكتافيوس Octavius (Gaius Julius Caesar Augustus) (27-14 ق.م). واستطاع أنْ يقنعه بأنّه كما كان صديقاً لأنطونيوس يمكنه أن يكون صديقاً لأوكتافيوس أيضاً، إذ أصبح الأخير أول إمبراطور روماني عام 27 ق.م، حيث حصل على لقب أغسطس Augustus (الوقور أو َمهيب، أو ذو الجلال). وهكذا بدأت صداقة استمرت طوال عهد هيرودس، الذي كان حليفه القوي والداعم.
إستطاع هيرودس تأسيس مملكته وتثبيت حكمه في الولاية اليهودية عام 37 ق.م. وذلك بعد هزيمته للحشمونيين، إذ أصبح ملكاً وحاكماً لفلسطين باسم الرومان وتحت سلطة روما مباشرة. ووسع حدود مملكته نحو الجهات الشمالية الشرقيّة في بانياس والجولان وحوران وضواحيها. أما الساحل الفلسطيني الشمالي ودورا والمنحدرات الغربية لجبل الكرمل، فكانت تابعة للفينيقيين، بينما منطقة النقب وشرقي الأردن كانت من نصيب الأنباط، وفي الشمال من شرق الأردن فقد حافظت بعض المدن العشر وعسقلان على حريتها ومكانتها.
تمتّع هيرودس الكبير بسلطة نافذة وثروة باهظة مكّنته من تحقيق رغبته في تبديل وجه الولاية اليهوديّة تبديلاً كاملاً وجعلها من الفخامة والجمال شبه مملكة هلنستية. وكان اليهود يكرهون هيرودس بالرّغم من أنه أمدهم بالمال والحبوب أثناء المجاعة التي أصابتهم عام 22 ق.م، كما أنه رمم بناء الهيكل في القدس عام 18 ق.م!! كما شيّد في القدس القصر الملكي، وحدائق متصلة بالقصر، كما أقام مسارح وملاعب ليس فقط في القدس وإنّما في مدن فلسطينية أُخرى مثل: سبسطية وقيسارية. ورغم كل ذلك، فقد كان اليهود يعتبرونه أجنبياً، ذلك لأنه كان يحب التقاليد الرومانيّة.
وفي آخر سنة من سني حكمه، ولد السيد المسيح في بيت لحم. ولما كان هيرودس قد أمر بقتل كل طفل يولد في بيت لحم؛ فقد هربت به أمه، وهرب معها يوسف النجار إلى مصر، خشية أن يبطش به ذلك الملك. وفي السّنة التي تلتها مات هيرودس بعد أن عاش في دست الحكم أربعين عاماً. وبعد وفاته عام 4 ق.م، قسمت مملكته ما بين أبنائه الثلاثة وشقيقته:
1. (أرخلاوس Archelaus (4 ق.م-6م) وحصل على لقب أُثنارخا ethnarch(المعني الحرفي: حاكم ألامة). وقد حاز على القسم الأكبر من فلسطين، والذي شمل: غرب نهر الاردن أي ولاية اليهوديّة، والسامرة (منطقة القدس، ونابلس)، وأرض الأدوميين.
2. فليب Philippus (4 ق.م-34م) وحصل على تترارخيا tetrarch البثنية، والجولان، وجزء من حوران، أي حكم المناطق والأقاليم الشماليّة الشرقيّة من فلسطين.
3. هيرود أنتيباس Herod Antipas (4 ق.م-39 م) وأصبح حاكماً (تترارخا) على منطقة البرية Perea (منطقة تقع في شمال شرق البحر الميت)، والجليل، وبنى مدينة طبريا واتّخذها عاصمة له بعد أن كانت في السابق عاصمته مدينة صفورية.
4. سلومة Salome- أخت هيرودس الكبير- حصلت على عزبة فصايل في الغور الأردني وأراضي مدينتي كل من يبنا Jamnia وأسدود Azotus على الساحل الجنوبي الفلسطيني. أما بالنسبة إلى المدن الهلنستية في فلسطين كمدينة غزة وكل من مدينتي جدارا (أم قيس) Gadara وتل الحصن Hippos التي كانت تشكل جزءاً من المدن العشر Decapolis، فقد حكمت بشكل مباشر من قبل الحاكم الروماني في سوريا Procurator (انظر خارطة رقم 4).
إلا أن هذا التقسيم ما بين أبناء هيرودس لم يدم طويلاً، ففي عام 6م أُبعد أرخلاوس عن الحكم؛ بسبب سوء حكمه وسياسته فنفته روما إلى بلاد الغال (فرنسا) بعد حكم دام عشر سنوات. واصبحت منطقة يهودا تحكم مباشرة من قبل الحاكم الروماني في سورية. وأسست ولاية اليهوديّة بروفينسيا جوديا Provincia Iudea، وأصبحت القدس في هذه الفترة العاصمة بدلاً من قيسارية، عاصمة أرخلاوس.
أما بالنسبة إلى فليب فقد توفي عام 34م وأصبحت الأراضي التي يحكمها تحت سيطرة الحاكم الروماني في سوريا، وتوفيت سلومة عام 10م، تاركة ورثتها- عزبتها في فصايل، ومدينتي يبنا، وأسدود- للإمبراطورة الرومانيّة ليفيا Livia زوجة الإمبراطور أغسطس، ومنها لاحقاً وُرثت إلى طبيريوسTiberius (14-37م).
في هذا الوقت ولفترة قصيرة من الزمن حكم آخر ملوك اليهود هيرود أغريبا الاول Herod Agrippa I الصديق الشخصي للإمبراطور كلاوديوس Claudius (41-54م)، حيث حصل على الأراضي التي كان يملكها فليب عام 37م، وأضاف إليها أراضي هيرود أنتيباس بعد إبعاد الأخير من منصبه عام 39م. وأخيراً حصل على بقية الأراضي التي كانت تابعة لأرخلاوس في عام 41م.
وبعد وفاة هيرود أغريبا الأول عام 44م، عادت الولاية اليهودية من جديد مباشرة لحكم الولاة الرومان؛ الذين تولوا إدارتها حتى قيام الثورة ضد الاحتلال الرّوماني في الأعوام ما بين 66-70م، إلا أنّ أجزاء من مملكة هيرود أغريبا الأوّل في الشمال والشمال الشرقي منحت لابنه أغريبا الثّاني Agrippa II. وأضيفت في وقت لاحق إلى مناطق حكمه في شمال البرية، وشرق الجليل، ومدينة طبريا، عام 54م.
وقد قسمت هذه المنطقة إدارياً إلى أحد عشر قضاءً منذ أيام هيرودس، ولعل التقسيم أهمل في أيام أرخلاوس، فأعيد في هذه الفترة. ولتسهيل العمل الإداري جمعت هذه فيما يمكن أن يسمى ألوية. وظلت التقسيمات معمولاً بها مع تعديلات طفيفة هنا وهناك في فترة الحكم الرّوماني المباشر. أما الأقضية الأحد عشر، فهي: بيت المقدس، وبيت صور (خربة الطبيقة)، وأريحا، وبلا Pella (بيت نتيف الأردنية وليست طبقة فحل)، وعمواس Nicopolis، والّلد Diospolis، وتما (خربة تبنة)، وجفنة، وعقربة، ويافا، ويبنا (يمنيا). وبعد ذلك، أصبحت فلسطين بكاملها ولاية رومانيّة Provincia Romana.
شهد بداية القرن الأوّل الميلادي وقوع عدة حوادث هامّة، ومن أهم هذه الأحداث ولادة السّيد المسيح عليه السلام، ورحلاته فيها في النّصف الأوّل من القرن المذكور، إذ كان عمره 12 عاماً عندما زار مدينة القدس (إنجيل لوقا، الإصحاح الثاني من العدد 41-50). وحسب التّقليد الدّيني المسيحي، فقد صلب وأُعدم عيسى عليه السلام فيها زمن الحاكم أو الوالي الروماني لفلسطين بيلاطس البنطي Pontius Pilate (36-26م). هذا وقد كانت المدينة في تلك الفترة، كما وصفها المؤرخ الروماني بلني الكبير Pliny The Elder (23-79م)، المدينة الأكثر شهرة من بين مدن الشّرق القديم Historia Natural, 5.70)).
ومن الأحداث المهمة التي شهدتها فلسطين في القرن الأول ميلادي كانت عندما أرسل الإمبراطور فسبسيانوس Vespasianus (69-79م) ابنه تيتس Titus الذي كان آنذاك قائداً عسكرياً- إمبراطوراً في السنوات (79-81)- على رأس جيش كبير إلى بلاد الشّام ليقوم بتحرير مدينة القدس التي لا يزال اليهود يقومون فيها بأعمال الفساد ومناوأة الحكم الروماني، فدخل المدينة ودمّر مبانيها وخاصة الهيكل!، وقتل عدداً كبيراً منهم، ونفى عدداً آخر خارج المدينة وخارج فلسطين كلّها، وباع الأسرى اليهود بأثمانٍ زهيدة.
إلاّ أن تغييرات كبيرة طرأت على الحدود الإداريّة لفلسطين، في الجهات الجنوبية والشرقيّة منها عندما تمّ القضاء على مملكة الأنباط على يد الإمبراطور الرّوماني تراجان Trajan (98-117م) عام 106م، إذ بنى ذلك الإمبراطور طريقاً يصل العقبة ببصرى، سميت فيا نوفا Via Nova (الطريق الجديدة). هذا بالإضافة إلى تشييد طرق أخرى تربط القدس مع بقية المدن الفلسطينيّة، مثل: (الخليل في الجنوب، ومن الشمال ابتداءً من عكا، والّلجون Legio أو (Maximianopolis) وسبسطية، وحتّى نيابولس Neapolis والقدس؛ وبين حسبان (في شرقي الأردن)، وأريحا، وبيت المقدس، وبيت جبرين Eleutheropolis، والطريق الساحلي فيا ماريسا Via Marisa، وغيرها من الطرق العسكرية التي ارتبطت بالطرق الأخرى في الحدود الشرقيّة ليميس اورينتاليس Limes orientalis للإمبراطوريّة الرومانيّة والتي كان لها بعض الأثر في تنشيط التجارة. إلاّ أنّ أهمّ عمل قام به تراجان هو تأسيس المقاطعة العربيّة Provincia Arabia وعاصمتها البتراء. غير أنها استبدلت- فيما بعد- بالعاصمة بصرى الّتي أصبحت بدورها قاعدة عسكريّة للفرقة الرومانيّة الثّالثة القورينية Third Legion Cyrenaica التي جاءت من ليبيا.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ المعلومات التاريخيّة المتوفرة حول فلسطين في العصر الروماني، وبخاصة منذ تدمير المدينة على يد القائد الروماني تيتس سنة 70م وحتّى العصر البيزنطي في بداية القرن الرابع الميلادي، نادرة وقليلة. ولا توجد معلومات كافية وروايات تاريخية معاصرة لهذه الفترة.
يروي المؤرخ يوسيفوس في كتابه "حروب اليهود" أنّ الفرقة الرومانيّة العاشرة Legion X fretensis كانت قد أقامت لها قاعدة عسكريّة براييتوريوم Praetorium على أنقاض مدينة القدس بعد تدميرها على يد القائد العسكري الرّوماني آنذاك تيتس عام 70م. وإذ بناها بالقرب من ثلاثة أبراج سميت بأسماء: أخيه وصديقه (المجهول الهوية) وزوجته على التّوالي (فصايل Phasael، هيبيكوس Hippicus، ومريمنا Mariamne) في جدار المدينة الغربي والذي لم يدمر في تلك الفترة (War, VII, 2-5). هذا بالإضافة إلى تأسيس قاعدة عسكريّة أخرى للفرقة الرومانيّة السّادسة Legio VI Farrata بالقرب من تل المتسلم (مجدو) أو الّلجون الحديثة.
وفي القرن الثّاني الميلادي زار الإمبراطور هدريان Hadrian (117-138 م) ولاية اليهوديّة عام 130م، وقرر بناء مستعمرة رومانيّة على أنقاض المدينة التي دمرت في عام 70م. ومن خلال دراسة الكتابات الكلاسيكيّة القديمة، يتبيّن أنّ هناك آراء مختلفة حول تحديد تاريخ بناء المدينة. فحسب مايروي ديو كاسيوس Dio Cassius (155-229م)، فإن بناء المستعمرة الرومانيّة في القدس كان السّبب الرئيس في اندلاع حركة باركوخبا عام 132م.
أما يوسيفيوس Eusebius (263-339 م)، فيؤرخ بناء المستعمرة الرومانيّة إلى عام 136م، وذلك بعد إخماد تحرك باركوخبا، ومما يدعم هذه الآراء اكتشاف عدد كبير من النّقود التي تعود إلى هذه الفترة (132-135م)، وتحمل اسم المستعمرة الرومانية كولونيا ايليا كابيتولينا Colonia Aelia Capitolina، إذ امتد هذا الاسم ليشمل تسميات أخرى في القرن الثّالث الميلادي، بحيث تكون من عناصر وألقاب أخرى مثل: كوموديانا Commodiana، وبيا فليكس Pia Felix، وانتونينيانا Antoniniana. كما أصبح استخدام اسم إيليا Aelia دارجاً خلال العصر البيزنطي والعصر الإسلامي المبكر.
أمّا بالنّسبة للّسياسة التي انتهجها هدريان تجاه سكان المدينة اليهود، فقد تمثلت بمنع اليهود من الإقامة في المدينة، ومن زيارتها، بالإضافة إلى استبدال اسم الولاية اليهوديّة باسم بروفينسيا سيريا بالايستينا Provincia Syria Palaestina (ولاية سوريا وفلسطين). وبكل بساطة كان استخدام اسم فلسطين باليستينا Palestina دارجاً كما كان في العصور السّابقة. ونتيجة لسياسة هدريان، حصل تغير ديمغرافي على المدينة، تمثّل بتضاؤل عدد سكانها من اليهود بسبب قتل الكثير منهم وتهجيرهم ومنعهم من دخولها وبيعهم كعبيد. لذلك، بقيت المدينة خالية من السّكان اليهود، وأصبحت تدريجياً مدينة وثنيّة للسّكان القادمين من باقي أنحاء الإمبراطوريّة الرّومانيّة.
العصر الروماني الوسيط والمتأخر (135-250-324م)
تمتاز هذه الفترة الزمنية من التّاريخ الروماني في فلسطين بقلّة البيانات والمعلومات المأخوذة من المصادر الأدبيّة والتّاريخيّة، بحيث يكون من الصعب إعطاء صورة واضحة عن تطور الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
لكن، وبشكل عام، شهد القرن الثّاني وبداية القرن الثّالث الميلادي ازدهاراً، حيث عمّ السلام والأمن الروماني في المنطقة باكس رومانا Pax Romana. إذ أنشأت مدن رومانية جديدة (مثل: بيت جبرين وعمواس Nicopolis والّلد ورأس العين Antipatris ومدينة اللجون في نهاية القرن الثّالث) (انظر خارطة رقم 5). إضافة إلى ذلك، فقد شيدت الكثير من قنوات المياه، وفتح عدد كبير من الطرق الجديدة ما بين المدن الفلسطينيّة الرومانيّة وفي شرق الأردن، بحيث استكمل بناء المدن وتعمير البلاد على طول العصر الروماني الوسيط والمتأخر في فلسطين.
لقد زار الإمبراطور سبتيموس سبفيروس Septimius Severus (193-211م) مدينة القدس، وأكّد أهميّة المدينة ومكانة سكانها، إذ خلدت هذه الزيارة عن طريق إصدار نقود رومانية خاصة. هذا بالإضافة إلى وضع قوانين صارمة تمنع اليهود من دخول القدس والإقامة فيها كما فعل من قبله هدريان، ولم تقم لهم قائمة بعد هذا التاريخ.
وفي عام 212 م أصدر كاراكالا Caracalla (211-217م) قانوناً (مرسوماً) بموجبه منح جميع السكان الأحرار الخاضعين لحكمه وسيطرته الجنسّية الرومانيّة (المواطنة). وعرف هذا القانون (المرسوم) باسم كونستيتوتيو انطونينيانا Constitutio Antoniniana وبالتّالي حصل سكان المدن الفلسطينية بموجب هذا القانون على المواطنة والجنسّية الرّومانيّة. والسّبب الرئيس من وراء إصدار مثل هذا النوع من القوانين زيادة عدد الأفراد الذين يدفعون الضّرائب لخزينة الدّولة، بالإضافة إلى الحاجة إلى عدد كبير من النّاس، لكي يخدموا في فرق الجيش الروماني، بعد أن كانت الخدمة في السابق مقتصرة على الذين يحملون المواطنة الكاملة.
وقد بدأت القدس تفقد من أهميّتها ومكانتها كمدينة رئيسية من بين المدن الفلسطينية الرومانية في القرن الثالث الميلادي؛ بسبب الأزمة التي مرت بها الإمبراطوريّة الرومانيّة منذ تسلم ماكسيمينيوس Maximinius الحكم عام (235-238م) وحتى موت كارينوس Carinus (283-285م). عمت الفوضى واضطرابات متزامنة، وكانت الإمبراطورية تتعرض لهجمات عنيفة من الخارج على أيدي القبائل الجرمانية والسلافية المختلفة في الغرب وعلى أيدي الدولة الساسانية التي خلفت الدوّلة الفارسية سنة 226م في الشّرق. أمّا من الداخل، فقد هزتها ثورة مملكة تدمر، والجيش الذي كان عليه أن يدافع عن الإمبراطورية كان يشغل بين الحين والآخر في تولية إمبراطور أو خلع إمبراطور آخر.
أمّا بالنسبة لمدينة القدس في هذه الفترة، فقد أخذت الفرقة الرومانيّة العاشرة بالانسحاب تدريّجياً من المعسكر الذي كان يخيّم به في الجهة الجنوبيّة الغربيّة منها ومن مواقع أخرى. فقد توجه إلى مدينة العقبة Aila التي كانت تشكّل الحدود الجنوبيّة للمقاطعة العربيّة، من أجل حماية الحدود من غزوات القبائل العربيّة في بادية الشام Saracens، إذ اكتملت عملية الانسحاب هذه نهاية القرن الثّالث، ولكن من المحتمل أنّها حصلت في فترة حكم الإمبراطور ديوقليسيانوس.
لكنَّ الاهتمام بالمدينة بدأ في بداية العصر البيزنطي، خاصّة في فترة حكم الإمبراطور قسطنطين الأوّل Constantinus I (306-337م)، بحيث أصبحت من أهم المدن الفلسطينيّة وذات مركز ديني هام ليس فقط على مستوى فلسطين فحسب، وإنما جميع أنحاء الإمبراطوريّة البيزنطيّة. ومن الجدير ذكره أنّ الّلغات التي كانت مستعملة في القدس في العصر الرّوماني هي: الآراميّة، وكانت يومئذ لغة التّخاطب العامة، والعبريّة تقتصر على اليهود من السكان، واليونانية للمثقفين من السكان على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم، والّلاتينية لموظفي الرومان وعمالهم. وقد بلغت ذروة استخدام الأخيرة خلال الاحتلال الرّوماني لفلسطين.
فلسطين تحت الحكم البيزنطي (324 م-638م)
يعدّ العصر البيزنطي في فلسطين امتداداً لفترة الحكم الرّوماني التي سبقته (63ق.م-324م). ولكن الإدارة الجديدة اتخذت الدّين المسيحي منذ بدايتها العقيدة الرسميّة لها. ونظراً لأهميّة فلسطين بصفتها الأرض التي نشأ بها عيسى عليه السلام وأُمّه مريم العذراء، وأدى رسالته. فقد صار لها مركز متميز وأهمية خاصة في هذا العهد الجديد. فقد اعتنق قسطنطين الأوّل مؤسس الدّولة البيزنطية الديّن المسيحي، وجعله دين الدّولة الرسمي. كما اعتنق الدين الجديد والدته هيلينا Helena، الّتي أولت فلسطين اهتماماً خاصّاً، إذ زارت فلسطين سنة 336م للتبرك بزيارة أماكنها المقدسة، واختارت مواقع كنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة القيامة في القدس، وكنيسة إيليونا على جبل الزيتون. وربما شيّدت هذه الكنائس من أجل تخليد ذكريات الولادة، والقيامة، والمعراج من حياة المسيح.
وبنى قسطنطين كنيسة محل دفن المسيح وهي كنيسة القيامة، وثانية على جبل الزّيتون بالقدس وهي كنيسة العروج. إلى جانب كنيسة المهد في بيت لحم وتلك عند ممرٍ في الخليل. لقد أدى تشييد الكنائس في فلسطين من قبل الإمبراطور وأمه هيلينا إلى تحويل فلسطين إلى مركز فني هام.
أما سياسياً فقد وقعت اضطرابات في فلسطين في عام 343م ضّد أفراد الجالية اليهودية ُقتل خلالها الكثير من اليهود والسّامريين واليونانيّين. فقد حذا قسطنطين حذو الأباطرة الرومان امثال: هدريانوس، وسبتميوس سيفيروس، فمنع اليهود سنة 335م من التبشير بينهم، وذلك بسبب الفساد الذي كانوا يعيثون به.
وقد منع قسطنطين اليهود من العيش في القدس أو المرور بها، وهو تأكيد لقرار هدريان السّابق، يظهر أنّه سمح لهم بزيارة موقع المعبد ليوم واحد من كل سنة وهو التّاسع من آب (يوم تدمير المعبد). وقد أُلغى التحريم هذا في القرن التّالي وذلك بتوسط الإمبراطورة ايدوكية Eudocia أرملة الإمبراطور ثيودوسيوس الثّاني Theodosius II (408-450م) واستطاع اليهود من السكن في المدينة مرة أخرى. كما حصل اليهود على دعم آخر في الفترة ما بين (361-363م). عندما خطط الإمبراطور البيزنطي جوليان الجاحد Julian the Apostate إعادة بناء المعبد اليهودي في مدينة القدس، وعهد بهذه المهمة إلى البيوس Alypius.
إلاّ أنّ فكرته هذه لم تلق نجاحاً بسبب الحروب وموت الإمبراطور صاحب الفكرة. وبالتّالي تجديد القانون-فيما بعد- الذي يمنع اليهود بموجبه من دخول القدس، وبخاصّة بعد التسّاهل معهم من قبل الإمبراطور المذكور سابقاً.
وفي سنة 395م وبعد وفاة الإمبراطور ثيوديسيوس الاول Theodosius I (379-395م) انقسمت الإمبراطورية الرومانية بين ولديه هونوريوس Honorius (395-423م) وأركاديوس Arcadius (395-408م) فتولّى الأول الإمبراطورية الرومانيّة الغربيّة وعاصمتها روما، وأما أركاديوس فقد تولّى حكم الإمبراطورية الرومانيّة الشرقيّة (الدولة البيزنطية) وعاصمتها بيزنطة (القسطنطينية)، وتضمّ بلاد الشّام بما فيها فلسطين.
وبعد ذلك بسنوات، أي في الفترة ما بين 397-400م قسمت فلسطين إلى ثلاث مناطق ادراية، وهي: فلسطين الأولى Palaestina Prima وعاصمتها قيسارية Caesarea Maritim. وفلسطين الثانية Palaestina Secunda وعاصمتها بيسان Scythopolis، وفلسطين الثالثة Palaestina Tertia وعاصمتها البتراءPetra . وفي عام 484م ثار السامريون في عهد زينو Zeno (474-491م)، حيث نصبوا يوستوس Justus ملكاً عليهم. وفي النهاية، ألحق بهم زينو هزيمة قاسية؛ واتخذ إجراءات قاسية ضدهم، وبنى كنيسة فوق مذبحهم على قمة جبل جرزيم في مدينة نابلس.
إلاّ أنّهم عادوا ثانية بالثّورة على البيزنطيين عام 529م في عهد جستنيانس الأول. وكانت ثورتهم هذه المرة بقيادة ملك يدعى يوليانوس Julianus إذ الحقوا أضراراً بالغة بالكنائس. وفي منطقة القدس دمّروا الكنائس في عمواس (اللّطرون حالياً)، وبيت لحم؛ وقتلوا عدداً كبيراً منهم في أحيائهم. واستطاع أخيراً جستنيانس إخماد ثورتهم فاستتب الأمن. وخلال أهم المراحل التاريخية التي مرت بها فلسطين، فقد اجتاحت الدولة الفارسية لفلسطين عام 614م، قاد ذلك الاجتياح كسرى الثّاني ملك الفرس Chosroes II (590-628م)، حيث تعرضت مدينة القدس لحصار استمر لمدة 20 يوماً.
هذا وقد ساعد يهود منطقة الجليل الفرس في احتلال فلسطين، بحيث يقال أنّهم قد أمدّوا الفرس 20 ألف جندي وقيل 26 ألف جندي. ويبدو أنّ البطريريك زكريا Zachary (609-632م) أراد أن يقبل بشروط الاستسلام التي عرضت عليه من قبل الفرس، إلاّ أنّ بعض سكان المدينة أصرّوا على المقاومة، وأسفرت عن احتلال المدينة بقوة السلاح، وحرق عدد كبير من الكنائس والأديرة، وقتل الآلاف من السّكان المسيحيين وقادتهم.
وبعد ذلك بوقت قصير، باشر البطريرك موديستوس Modestus (632-634م) من ترميم بعض الكنائس المهدّمة، وبخاصة كنسية القبر المقدّس. إلا أنه وبعد مرور أربعة عشر عاماً استطاع الإمبراطور البيزنطي هرقل Heraclius (610-636م) أن ينتصر على الفرس في معركة حاسمة بالقرب من نينوى بالعراق عام 628م ويستعيد القدس. قال تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿2﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿3﴾فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . (سورة الروم، الآيات من 1-3). صدق الله العظيم.
وبعد هذا التاريخ قام هرقل بإعادة بناء الكنائس الّتي خرّبها الفرس. وكان لابدّ له من التعامل مع اليهود الذين قتلوا من مسيحيي القدس أكثر مما قتل الفرس أنفسهم، فقام بقتل بعضهم وطرد الآخرين منهم ولم يسمح لهم بالاقتراب لأكثر من ثلاثة أميال من القدس. وفي عام 620م، وقعت معجزة الإسراء والمعراج، فأسري بالنّبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن فوق الصخرة بدأت رحلة الصعود إلى السموات العلى.
قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ". (سورة الإسراء، آية رقم 1) صدق الله العظيم.
لم يستمر الحكم البيزنطي لفلسطين طويلاً. إذ التقت القوّات العربيّة الإسلاميّة مع البيزنطيّة في معركة اليرموك عام 636م، وكانت نتيجتها هزيمة القوّات البيزنطيّة. وأخيراً، ينتهي هذا العصر في فلسطين عام 16ه/638م عندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس وتسلم مفاتيحها من بطريركها آنذاك صفرونيوس Sofronius (634-638م)، وبعد ذلك تبدأ صفحة مجيدة من تاريخ القدس الشريف بدخول العرب والمسلمين إليها ونشر الدين الإسلامي فيها الذي أصبح فيما بعد وحتى الوقت الحاضر ثقافة ودين الغالبية العظمى من سكان فلسطين.
القدس في العصور الوسطى
احتلت مدينة بيت المقدس في الدعوة الإسلامية من البداية مكاناً هاماً فقد أشير إليها عدة مرات في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي وكانت قبلة الإسلام الأولى واليها كان إسراء النبي محمد ومنها كان عروجه.
بعد هزيمة الروم في معركة اليرموك، أصبح الطريق مفتوحاً إلى بيت المقدس وطلب أبو عبيدة بن الجراج من الخليفة أن يأتي إلى المدينة لأن سكانها يأبون التسليم إلا إذا حضر شخصياً لتسلم المدينة، وقد ذهب عمر إلى بيت المقدس سنة 15هـ / 636 م وأعطى الأمان لأهلها وتعهد لهم بأن تصان أرواحهم وأموالهم وكنائسهم وبألا يسمح لليهود بالعيش بينهم ومنح عمر سكان المدينة الحرية الدينية مقابل دفع الجزية ورفض أن يصلي في كنيسة القيامة لئلا تتخذ صلاته سابقة لمن يأتي بعده، وذهب إلى موقع المسجد الأقصى فأزال بيده ما كان على الصخرة من أقذار، وبنى مسجداً في الزاوية الجنوبية من ساحة الحرم، وتميز الحكم العربي الإسلامي بالتسامح الديني، واحتفظ المسيحيون بكنائسهم وبحرية أداء شعائرهم الدينية.
الخلفاء الراشون، الأمويون والعباسيون
بنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة المشرفة سنة 72 هـ /691 م، وأقام الوليد بن عبد الملك المسجد الأقصى بعد ذلك بسنوات قلائل (حوالي سنة 90 هـ .وواصل الخلفاء العباسيون الاهتمام بالقدس فزارها منهم المنصور (136-158 هـ/574 –775 م ) والمهدي ( 158 –169 هـ /775 –785 م ) والمأمون (198 – 218هـ / 813 –833 م ) عند عودته من زيارة مصر ، وقد جرت في عهد الخلفاء الثلاثة تغييرات وتجديدات فيالمسجد الأقصى وقبة الصخرة بعد الخراب الذي نتج عن الزلازل المتكررة.
فترة الخلافة الفاطمية
في سنة 359 / 969 م استولى الفاطميون على القدس، وقد تميز حكـم الحاكم بأمـر الله (386 –411 هـ/ 996 – 1020 م ) بالتعصب الديني واضطهاد النصارى فهدم كنيسة القيامة وغيرها من الكنائس وأوقع بالمسيحية شتى أنواع الاضطهاد، ولكن ذلك لم يصبهم وحدهم فلم يكن المسلمون من رعاياه أفضل حالاً بكثير.
فترة مملكة القدس (الصليبيون)
وفي عهد الدولة الفاطمية استطاع الصليبيون الاستيلاء على بيت المقدس عام 1099 وبقيت في أيديهم حتى عام 1187م إلى أن استطاع القائد صلاح الدين الأيوب يتخليصها منهم بعد معركة حطين. وقد أزال صلاح الدين الصليب عن قبة الصخرة، ورفع فيها المصاحف وعين لها الأئمة ووضع في المسجد الأقصى المنبر الذي كان قد أمر نورالدين محمود بن زنكي بصنعه ودشن إنشاءات إسلامية كثيرة في القدس أهمها مدرسة الشافعية (الصلاحية) وخانقاه للصوفية ومستشفى كبير (البيمارستان)، وأشرف بنفسه على تلك الإنشاءات، بل شارك بيديه في بناء سور القدس وتحصينه، وعقد في المدينة مجالس العلم.
تولى حكم القدس بعد صلاح الدين ابنه الملك الأفضل الذي وقف المنطقة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من الحرم على المغاربة، حماية لمنطقة البراق المقدسة، وأنشأ فيها مدرسة، وممن حكم القدس من الأيوبيين بعد الأفضل الملك المعظم عيسى بن محمد بن أيوب، الذي أجرى تعميرات في كل من المسجد الأقصى والصخرة وأنشأ ثلاث مدارس للحنفية (وكان الحنفي الوحيد من الأسرة الأيوبية)، ولكن المعظم عاد فدمر أسوار القدس خوفاً من استيلاء الصليبيين عليها وضرب المدينة فاضطر أهلها إلى الهجرة في أسوأ الظروف وتلا المعظم بعد فترة وجيزة أخوة الملك الكامل الذي عقد اتفاقاً مع الإمبراطور فردريك الثاني ملك الفرنجة، سلمه بموجبه القدس ما عدا الحرم الشريف، وسلمت المدينة وسط مظاهر الحزن والسخط والاستنكار سنة 626هـ/1229 م وبقيت في أيديهم حتى 637 هـ / 1239 عندما استردها الملك الناصر داود بن أخي الكامل، ثم عادت إلى المسلمين نهائياً سنة 642 هـ / 1244 عندما استردها الخوارزمية لصالح نجم الدين أيوب ملك مصر.
الأيوبيون، المماليك البحرية، والمماليك البرجية
دخلت القدس في حوزة المماليك في سنة 651 هـ/ 1253 م وفي عصر المماليك حظيت المدينة باهتمام ملحوظ وقام سلاطينهم: الظاهر بيبرس (ت 676 هـ/ 1277 م) وسيف الدين قلاوون (حكم من 679 –689 هـ / 1280 –1290 م ) والناصـر محمد بـن قـلاوون (ت 741 هـ / 1340 م ) والأشرف قايتباي (حكم من 893 – 903هـ / 1486 –1496 م ) وغيرهم بزيارات عدة للقدس، وأقاموا منشآت دينية ومدنية مختلفة فيها كانت آيه للعمارة، وأجروا تعميرات كثيرة في قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ومنالمنشآت التي أقامها المماليك زهاء خمسين مدرسة وسبعين ربط وعشرات الزوايا.
وفي سنة 777 هـ جعلوا القدس نيابة مستقلة تابعة للسلطان في القاهرة مباشرة بعد أن كانت تابعة لنيابة دمشق ومن أثار المماليك في القدس انهم سحبوا المياه من عين العروب إلى الحرم الشريف، ومن أشهر المدارس التي أنشأوها المدرسة السلطانية الأشرفية والمدرسة التنكزية، وغدت القدس زمن المماليك مركزاً من أهم المراكزالعلمية في العالم الإسلامي كله فكان يفد إليها الدارسون والمدرسون من مختلف الأقطار وقد اكتشف في الحرم القدسي سنة 1974 م وبعده وثائق مملوكية تلقى المزيد منالضوء على تاريخ المدينة.
الفترة المعاصرة
في سنة 922 هـ/ 1516 م وضع السلطان سليم العثماني حداً لحكم المماليك في بلاد الشام إثر انتصاره فيمعركة مرج دابق وفي السنة التالية احتل القدس. ولما توفي السلطان سليم خلفه ابنهسليمان القانوني ( 927 هـ/ 1520م ) الذي اهتم بالقدس اهتماماً خاصاً وأقام فيهامنشآت كثيرة منها سور القدس الذي دامت عمارته خمسة أعوام، وتكية خاصكي سلطان، ومساجد و أسبلة، وعمر كذلك قبة الصخرة.
العصر الحديث
أواخر الحكم العثماني
تسليم العثمانين القدس للبريطانيين، 9 ديسمبر 1917.
كانت متصرفية القدس مقاطعة عثمانية بوضع اداري خاص تأسست عام 1874. تشمل وسط وجنوب فلسطين، وكان مركزها القدس وتضم بلدات رئيسية مثل غزة، يافا، الخليل، بيت لحم، وبئر سبع. وكانت المتصرفية في السابق سنجق عثماني تابع لولاية سوريا (تأسست عام 1864، في أعقاب اصلاحات التنظيمات). وكانت مع سنجق نابلس وسنجق عكا، تشكل المنطقة التي كان يطلق عليها "جنوب سوريا" في أواخر العصر العثماني. احتلت المنطقة قوات الحلفاء عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى وأصبحت جزء من الانتداب البريطاني على فلسطين.
فترة الانتداب البريطاني
الانتداب البريطاني على فلسطين أعمال شغب فلسطين 1920ثورة البراقحرب التطهير العرقي لفلسطين 1947 - 1948حرب 1948
سقطت القدس بيد الجيش البريطاني بقيادة الفريق أول إدموند ألنبي في سنة 1917، بعد أن تقهقر الجيش العثماني مهزومًا أمامهم، وفي سنة 1922 منحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين وإمارة شرق الأردن والعراق، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
دخلت المدينة في عهد جديد كان من أبرز سماته زيادة أعداد المهاجرين اليهود إليها خاصة بعد وعد بلفور الذي أبرمته حكومة المملكة المتحدة مع ممثل الحركة الصهيونية، ثيودور هرتزل،وقد أظهرت بعض إحصائيات تلك الفترة أن عدد سكان المدينة ارتفع من 52,000 نسمة عام 1922 إلى 165,000 نسمة عام 1948 بفعل هجرة اليهود. أدّى ازدياد عدد اليهود في فلسطين عمومًا والقدس خصوصًا، وشرائهم للأراضي ومساعدة البريطانيين لهم، أدّى إلى استياء المقدسيين من مسلمين ومسيحيين، فقامت أعمال شغب في سنتيّ 1920 و 1929، وعُرفت الأخيرة بثورة البراق، قُتل خلالها عدد من اليهود. عمل البريطانيون على إخماد هذه الثورات، وساهموا في جعل اليهود يستقرون في المدينة عن طريق بنائهم لأحياء سكنيّة كاملة في شمال وغرب المدينة، وإنشائهم لعدد من مؤسسات التعليم العالي، مثل الجامعة العبرية.
أحيلت قضية القدس إلى الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فأصدرت الهيئة الدولية قرارها في 29 نوفمبر سنة 1947 بتدويل القدس تحت رعايتها وإشرافها. وجاء في القرار أنه سوف يُطبّق طيلة 10 سنوات، ويشمل مدينة بيت لحم، وأنه بعد هذه الفترة سيتم إجراء استفتاء عام لتحديد نظام الحكم الذي يرغب أغلبية سكان المدينة بتطبيقه عليهم. إلا أن تطبيق هذا القرار لم يُكتب له أن يتم، فبعد أن أعلنت بريطانيا في عام 1948 إنهاء الانتداب في فلسطين وسحب قواتها، استغلت العصابات اليهودية حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنت قيام الدولة الإسرائيلية، فثار العرب عمومًا والفلسطينيون خصوصًا وأعلنوا الحرب على إسرائيل، فهوجمت المدينة من قبل الجيش العربي والثوّار الفلسطينيين، وقُتل عدد من الإسرائيليين في هذا الهجوم وتم أسر البعض الآخر. كذلك هاجم القنّاصة العرب القسم الغربي من المدينة.
في عام ١٩١٤ اندلعت الحرب العالمية الأولى وهي الحرب التي شاركت فيها الدولة العثمانية إلى جانب المانيا في الحرب ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة، وكانت منطقة الشرق الأوسط ميدانا للمعارك الحربية وفي مقدمتها بلاد الشام، وبعد معارك طاحنة بين الجيش البريطاني والجيش العثماني في منطقة قناة السويس تقدمت القوات البريطانية صوب فلسطين وصوب القدس، الأمر الذي ادى إلى هزيمة العثمانيين واند حارهم وانسحابهم عن فلسطين والقدس، حيث غادرت بقايا الجيش العثماني مدينة القدس صباح يوم الأحد التاسع من كانون الأول ،۱۹۱۷ ، وبعد يومين دخل الجنرال اللنبي على رأس قوات بريطانية إلى البلدة القديمة عبر باب الخليل ووقف فوق منصة درج القلعة في ساحة باب الخليل حيث قرأ على الحاضرين من رجال الدين ووجهاء وسكان القدس بيانا اعلن فيه احتلال المدينة وسائر فلسطين وزوال الحكم العثماني الذي استمر اربعة عقود.
منذ ذلك التاريخ تغير وضع القدس حيث خضعت من جديد للاحتلال الأجنبي الإستعماري وهذه المرة كانت بريطانيا هي المحتل الجديد والمذهل ان الإحتلال البريطاني لفلسطين قد جرى بعد اقل من شهر على تصريح بلفور الذي صدر في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر سنة ۱۹۱۷ الذي وعدت فيه بريطانيا على لسان وزير خارجيتها اللورد ارثر بلفور الحركة الصهيونية بالسعي لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. في عام ۱۹۲۲م تحولت سلطة الإحتلال البريطاني لتصبح هي نفسها سلطة ما سمي ب الانتداب البريطاني على فلسطين وذلك بموجب قرار عصبة الأمم القاضي بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني وادراج وعد بلفور في مقدمة صك الانتداب وعلى هذا النحو فقد استمر الانتداب البريطاني لفلسطين تحت مظلة ما عرف بالانتداب البريطاني. وقد ساهمت بريطانيا بعد إعلان انتدابها على فلسطين وبموجب هذ الصك المشؤوم في تطبيق وعد بلفور عن طريق تعزيز الوجود اليهودي في البلاد، وذلك من خلال تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولم تكن القدس في كل ما جرى وما كان يجري بعيدة أو غائبة عن هذا الصراع بل انها كانت في قلب الصراع وفي عين العاصفة، وقد عملت سلطات الانتداب البريطاني على تعزيز الوجود اليهودي في المدينة من خلال تقديم كل التسهيلات والمساعدات إلى المنظمات اليهودية وفي هذا الشأن قامت حكومة الانتداب البريطاني بإجراء تخطيط جديد للمدينة، وتوسيع حدودها، وتركيز المؤسسات الحكومية والتجارية والخدماتية في الجزء الغربي من المدينة. ولتعزيز الوجود اليهودي في القدس، وتنفيذ وعد بلفور، عملت حكومة الاحتلال الإنجليزي على إقامة المباني الحكومية الإنجليزية في الجزء الغربي من المدينة وأهملت إحداث أي تطوير في الشطر الشرقي منها . طوال الفترة الممتدة من العام ۱۹۱۷ وحتى العام ١٩٤٧ واصل الشعب العربي الفلسطيني مقاومته المزدوجة أولا ضد سلطات الانتداب البريطاني التي احتلت واستعمرت فلسطين والتي کرست جهودها لدعم الحركة الصهيونية في سبيل إقامة وطن قومي يهودي. وثانيها ضد الحركة الصهيونية التي جاءت إلى فلسطين لتستولي على ارض الشعب الفلسطيني ولتقيم وطنا على حساب حقوقه الوطنية المشروعة.
على الرغم من السياسة البريطانية في فلسطين بعامة والقدس بخاصة ودورها في خلق كيان غريب في فلسطين إلا أنها أثرت في المشهد الثقافية والاجتماعي والعمراني في مدينة القدس كما كان لها دور في حماية آثار المدينة من خلال مجموعة من التشريعات الهادفة إلى حماية الممتلكات التاريخية ورغم سطوة الانتداب البريطاني بقيت القدس خلال تلك العقود منارة للحضارة والثقافة والعلم ليس لأهل القدس فحسب ولكن لكل أبناء الشعب الفلسطيني، وقد شهدت المدينة تطورا وتحولا على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتجاري والتعليمي والثقافي والفني والعمراني في الفترة ما بين عامي ۱۹۱۷ وحتى سنة ١٩٤٨.
التقسيم بين الأردن وإسرائيل (1948–1967)
كان من نتائج حرب سنة 1948 بين العرب والإسرائليين أن قُسمت القدس إلى شطرين: الجزء الغربي الخاضع لإسرائيل، والجزء الشرقي الخاضع للأردن.
وفي شهر نوفمبر من نفس السنة، أقيمت منطقة عازلة بين الجزئين، حيث قابل قائد القوّات الإسرائيلية في القدس، موشيه دايان، نظيره الأردني عبد الله التل في إحدى منازل حيّ مصرارة بالقدس، وقاما بتعليم الحدود الفاصلة بين شطريّ المدينة، حيث لوّنت حصة إسرائيل باللون الأحمر وحصة الأردن باللون الأخضر. نجم هذا اللقاء عن رسم خريطة لحدود غير رسميّة بين الطرفين المتحاربين، لكنها أخذت بعين الاعتبار عند توقيع اتفاقية الهدنة بين إسرائيل ولبنان ومصروالأردن وسوريا سنة 1949، والتي اتفقت فيها تلك الدول على وقف إطلاق النار والتزام الإسرائيليين بالبقاء ضمن هذه الحدود لحين إيجاد حل سلمي للنزاع. كذلك نصّت هذه الاتفاقية على تقسيم القدس على أن يبقى جبل المشارف في يد إسرائيل على الرغم من أنه يقع في القسم الشرقي، بوصفه جيب داخلي. بناءً على هذا، أقيمت الحواجز الاسمنتيّة والأسلاك الشائكة في وسط المدينة ومرّت بالقرب من باب الخليل في الجانب الغربي من البلدة القديمة، وأُنشأت نقطة عبور شمال الأخيرة عُرفت بمعبر مندلباوم. استمرت بعض المناوشات العسكرية بين الأردن وإسرائيل بين الحين والآخر على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أنها لم تكن ذات أهمية تُذكر غالبًا. كان داود بن گوريون، رئيس وزراء إسرائيل، قد أعلن في 3 ديسمبر 1948 أن القدس الغربية عاصمة للدولة الإسرائيلية الوليدة، وفي سنة 1950 أعلن الأردن رسميًا خضوع القدس الشرقية للسيادة الأردنية، وقد اعترفت المملكة المتحدة وباكستان بهذا الضم، فيما لم تعترف دول أخرى بهذا الأمر بحجة أن القدس الشرقية خضعت للأردن بحكم الأمر الواقع وليس بشكل رسمي،[ ويشكك البعض إن كانت باكستان قد اعترفت بضم الأردن للقدس الشرقية حتى.
في عام ١٩٤٧ اصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين إلى دولتين دولة يهودية ودولة عربية وبقاء منطقة القدس تحت الوصاية الدولية وقد رفض العرب قرار التقسيم فيما شرعت المنظمات اليهودية بالاستيلاء على مدن فلسطين واحدة بعد الأخرى وتصدت لها قوى المقاومة الفلسطينة التي تمثلت في قوات الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني وقوات جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي وغيرها من قوات المتطوعين العرب من مصريين واردنيين وسوريين ولبنانيين وسودانيين وغيرهم و عبرت إلى فلسطين جيوش سبع دول عربية لمساعدة الشعب الفلسطيني ابتداء من يوم الخامس عشر من شهر ايار ۱۹٤٨ حيث اندلعت الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى، وبدا واضحا تفوق قوات المنظمات اليهودية عددا وتسليحا الأمر الذي ادى إلى الهزيمة والنكبة وطرد مئات الآلاف من أبناء فلسطين إلى المنافي خارج فلسطين و اعلان قيام دولة إسرائيل . نتيجة للنكبة تغيرت خريطة القدس التي كانت معروفة مع بداية العام ١٩٤٨ بشكل جذري ديمغرافيا وطوبغرافيا، فقد خسرت المدينة شطرها الغربي الذي سقط تحت الاحتلال الإسرائيلي ونزح المئات من العائلات المقدسية من احياء القطمون والبقعة والطالبية والوعرية والنبي داود والثوري والشماعة والكولونية الالمانية وغيرها من غرب المدينة إلى شرقها ولم يبق غربي المدينة سوى عدد محدود جدا من العائلات العربية وفقدت المدينة المئات من العقارات والمباني المملوكة سواء للأفراد أو الهيئات مثل املاك الأوقاف والكنائس والأديرة كما فقدت المدينة الآلاف من من دونمات الأراضي كما فقدت عشرات القرى المحيطة بها، ونزح اليها الالاف من اهالي تلك القرى المجاورة التي سقطت تحت الاحتلال وهكذا مع بداية عام ١٩٤٩ كانت القدس قد قسمت واقعا وقانونا وانقطع الاتصال بين شطري المدينة المقدسة وارتفع جدار يفصل بينهما، ولم يعد هناك أي معبر يربط بين الشطرين سوى بوابة اطلق عليها اسم ماندليوم، وقد ادى تقسيم المدينة إلى اغلاق عدد من اهم ابواب سور القدس، وهي ابواب الجديد والخليل والنبي داود، كما ادى التقسيم إلى تمزيق بعض الاحياء مثل المصرارة والثوري وقرية بيت صفافا التي انقسمت إلى قسمين وبسقوط الأحياء الغربية في يد المنظمات اليهودية تمت السيطرة على كافة المباني الإدارية والبنوك والوكالات والمكاتب والمؤسسات التعليمية والاجتماعية والاقتصادية، ومؤسسات الوقف الإسلامي، والفنادق والجمعيات الشبابية، ودار الإذاعة الفلسطينية، ودائرة الصحة والمشافي، ودور السينما، ومكاتب البلدية ودائرة البريد ودائرة تسجيل الأراضي وغيرها من المؤسسات ما سهل قيام دولة اليهود التي سميت إسرائيل.
خضعت أغلبية المواقع المقدسة في القدس للسيادة الأردنية، بما أن أغلبها يقع في القسم الشرقي من المدينة، فأجرت الحكومة الأردنية عدد من الإصلاحات والترميمات لقبة الصخرة والمسجد الأقصى،وسمحت للمسيحيين الأجانب بزيارة المقدسات المسيحية شرط خضوعهم للرقابة،أما اليهود فلم يُسمح لهم بدخول المدينة لاعتبارات سياسية، حيث كانت الحكومة تخشى أن يعمل بعضهم في الجاسوسية لصالح إسرائيل.
خاض العرب وإسرائيل حربًا أخرى في سنة 1967 انتصرت فيها الأخيرة، وقامت بالسيطرة على القدس الشرقية، وكان من نتيجة ذلك أن عاد اليهود ليدخلوا دون أي قيود إلى أماكنهم المقدسة، كذلك أزيلت القيود المفروضة على المسيحيين الغربيين، أما المسجد الأقصى وقبة الصخرة فاستمرا خاضعين للأوقاف الإسلامية. قام الإسرائيليون بهدم حارة المغاربة بعد دخولهم المدينة، بما أنها كانت تواجه حائط البراق الذي يتعبّد اليهود عنده،ولكي يجعلوا من الموقع ساحة لرفع الصلاة اليهودية. قامت إسرائيل بتوسيع حدود المدينة بعد انتهاء الحرب وذلك عبر بناء عدد من الأحياء السكنية والمستعمرات اليهودية شرق الخط الأخضر، وقد أقدمت إسرائيل منذ سنة 1967 بمحاولات عديدة تهدف إلى تهويد المناطق التي احتلتها بعد الحرب، وذلك عبر وسائل عديدة، منها التركيز الإعلامي على أهمية المواقع الأثرية العبرانية في المدينة.
قوبل ضم إسرائيل للقدس الشرقية بالاستنكار الدولي، وبعد أن أصدرت إسرائيل قانون أساس اعتبرت فيه القدس الموحدة عاصمة أبدية للبلاد، أصدر مجلس أمن الأمم المتحدة القرار رقم 478 الذي نص على أن إسرائيل خرقت قانونًا دوليًا وطالب جميع الدول الأعضاء بسحب ما تبقى من سفاراتها من القدس.[44] ما زالت مسألة القدس تُشكل قضية محورية في الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصًا مع إقرار الحكومة الإسرائيلية بناء وحدات استيطانية جديدة على الدوام في حارات وأحياء في البلدة القديمة يسكنها مسلمون وتحوي مقدسات إسلامية،في سبيل رفع عدد اليهود في القدس الشرقية، إلا أن علماء الدين المسلمون وعدد من المؤرخين العرب يزعمون أن اليهود ليس لهم أي حق في المدينة لأسباب متنوعة،[معلومة 1] منها أن حائط البراق الذي بُني منذ حوالي 2,500 سنة كان جزءًا من مسجد سليمان الذي تسميه اليهود هيكل سليمان.طالب الفلسطينيون وما زالوا بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية، لذا لطالما كانت حدود المدينة موضع نقاش وجدال في المحادثات الثنائية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. أقام بعض الأشخاص من الفلسطينيين والإسرائيليين الراغبين بالسلام نصبًا تذكاريًا مصنوع من الأسلحة القديمة البالية، يواجه سور القدس القديم ونقشوا عليه عبارات بالعربية والعبرية مقتبسة من سفر أشعياء.
القدس في العهد الأردني
على إثر نكبة فلسطين عام (١٣٨٧هـ / ١٩٦٧)، واحتلال المنظمات اليهودية %۷۸ من مساحة فلسطين التاريخية، بعد النكبة، وما تلاها من توقيع الاتفاقية وقف إطلاق النار، وتقسيم المدينة وإلحاق الجزء الشرقي منها للإدارة الأردنية لم يتبق من المباني الادارية سوى: مبنى القشلة، والمتحف الفلسطيني، ما أدى إلى خلق واقع مأساوي، وفراغ إداري كامل، وهذا شكل تحديا للادارة الأردنية، وللمقدسيين من أجل إعادة بناء المؤسسات الرسمية اللازمة، بالاضافة إلى خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من الأحياء الغربية ومن قراهم في محافظة القدس.
من وسط الانقاض والمعاناة والعذاب نتيجة تقسيم وتمزيق المدينة راح اهل القدس يبنون من جديد تعويضا عما فقدوه خلال حرب عام ١٩٤٨، وقام اهل القدس باعظم ادوارهم في تلك الفترة وذلك بالعمل لتعمير وتطوير مدينتهم في العديد من المجالات بموارد محدودة وارادة صلبة وذلك في مجالات التعليم والثقافة والصحة والسياحة والتجارة والاعمار والتطوير وغيرها .
عملت حكومة الأردن خلال حكمها للقدس على مدار (۱۹) عاما على بناء المؤسسات الحكومية الإدارية والخدماتية، التي أسهمت في تطوير المدينة، وإعادة تأهيل قطاعاتها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والصحية والتعليمية، وكل ما يخص البنية التحتية.
وما تزال المملكة الأردنية الهاشمية تقوم بدور مهم في مدينة القدس عبر رعايتها للأماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية في المدينة من خلال مديرية الأوقاف الإسلامية، وتقديم الدعم السياسي الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية، والتصدي لمخططات الاحتلال الهادفة إلى تهويد المسجد الأقصى المبارك على وجه التحديد.
القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي عام ١٩٦٧
على إثر نكبة عام ١٩٦٧ احتلت إسرائيل الجزء المتبقي من فلسطين التاريخية بما فيها الشطر الشرقي من القدس حيث قامت الحكومة الإسرائيلية بعد اقل من عشرين يوما على احتلال القدس الشرقية باستصدار قوانين من الكنيست الإسرائيلي في ۲۸ حزيران ۱۹٦٧ نصت على ضم الشطر الشرقي المحتل والذي يشمل البلدة القديمة وأحياء سلوان والثوري ورأس العمود وباب الساهرة ووادي الجوز والشيخ جراح والصوانة إلى بلدية القدس. تطبيق القوانين والتشريعات الاسرائيلية على القدس العربية الشرقية، حل مجلس أمانة القدس المجلس البلدي، وضم جميع أجهزة الأمانة والموظفين إلى بلدية القدس الإسرائيلية توسيع حدود البلدية الإسرائيلية الجديدة بحيث أصبحت مساحتها مائة وثمان دونما بدلا من ثمان واربعون دونما، ومن بين الاحياء التي تم ضمها إلى البلدية الإسرائيلية الجديدة أحياء شعفاط بيت حنينا، وصولا إلى مطار القدس وحتى فندق سميراميس قرب رام الله جبل المكبر الطور صور باهر .
رغم الاحتلال الإسرائيلي للقدس كلها شرقا وغربا إلا ان اهلها قاموا بادوار هامة طوال خمسين عاما سواء من حيث مقاومة الاحتلال والتهويد بكل الوسائل والاساليب أو من حيث اعادة بناء وتطوير مؤسساتهم الأهلية الاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياحية وغيرها من مجالات الحياة. منذ اللحظة الأولى لإحتلال المدينة قامت إسرائيل وما تزال تقوم بالعمل على تهويد وأسرلة المدينة، وأهلها، منتهكة بذلك كل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية. وعلى الرغم من كافة الانتهاكات والجرائم الممنهجة التي قام بها الاحتلال، وما يزال يقوم بها في مدينة القدس إلا أنها ظلت مستعصية على المحتل، يفعل صمود أبنائها الفلسطينيين، وبقيت مدينة عربية إسلامية الهوية والملامح
المصادر :
المفصل في تاريخ القدس، للمؤلف المقدسي عارف العارف
https://m.marefa.org/
^ "تاريخ القدس القديم". منتديات عالم الرومانسية.
^ أولا: تاريخ القدس القديم في الفترة العربية، منتديات الخيمة
^ موجز تاريخ القدس، شبكة فلسطين للحوار
^ التغيرات الجغرافية والديمغرافية، مركز دراسات المستقبل، جامعة أسيوط، 1996، ص 833.
^ القدس.. قصة مدينة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، ط1، ص 24 والعسلي، الموسوعة الفلسطينية، المجلد.
- الكتاب المقدس، ط2 (بيروت: دار المشرق ش م م، 1991).
- عباس، إحسان، تاريخ دولة الأنباط: بحوث في تاريخ بلاد الشام، ط1. (عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، 1987).
- مننهول، جورج، "القدس من 1000-63 ق.م". القدس في التاريخ، ترجمة كامل العسلي. (عمان: منشورات الجامعة الاردنيّة، 1992).53-91. - الحوت، د.بيان، فلسطين: القضة والشعب والحضارة. (دار الإستقلال، 1991). ص 59.
- الدباغ، مصطفى مراد، بلادنا فلسطين، ج9، ق2. (الخليل: رابطة الجامعيين، 1975).
- الشريقي، إبراهيم، أورشليم وأرض كنعان: حوار مع أنبياء وملوك إسرائيل. (لندن: مؤسسة الدراسات الدولية، 1985).
- العارف، عارف، المفصل في تاريخ القدس، ط2. (القدس: مطبعة المعارف، 1986).
- العك، خالد عبد الرحمن، تاريخ القدس العربي القديم، ط2. (دمشق: مؤسّسة النّوري للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الطبعة الثانية، 2002).
- الكفافي، زيدان، وآخرون، القدس عبر العصور. (إربد: جامعة اليرموك، 2001). طبعة تجريبيّة. 34-37.
- المهتدي، عبلة، القدس تاريخ وحضارة (3000ق.م-1917م). (بيروت: دار نعمة للطباعة، 2000).
- بل، سيرهارولد إدريس، الهيلينية في مصر من الإسكندر الأكبر إلى الفتح العربي: بحث في وسائل انتشارها وعوامل اضمحلالها. (جامعة القاهرة: مكتبة الدراسات التاريخية، 1948). ص43.
- ولكسون، جون، "القدس تحت حكم روما وبيزنطة". القدس في التاريخ، ترجمة كامل العسلي. (عمان: منشورات الجامعة الأردنيّة، 1992).93-128.