الاسراء والمعراج

الإسراء هو الرحلة الأرضية التي هيأها الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى القدس.. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. رحلة أرضية ليلية.

والمعراج رحلة من الأرض إلى السماء، من القدس إلى السموات العلا، إلى مستوى لم يصل إليه بشر من قبل، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث يعلم الله عز وجل.. هاتان الرحلتان (الإسراء والمعراج) كانتا محطة مهمة في حياته (صلى الله عليه وسلم) وفي مسيرة دعوته في مكة، بعد أن قاسى ما قاسى وعانى ما عانى من قريش، ثم قال: لعلي أجد أرضًا أخصب من هذه الأرض عند ثقيف، عند أهل الطائف، فوجد منهم ما لا تُحمد عقباه، ردوه أسوأ رد، سلطوا عليه عبيدهم وسفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه (صلى الله عليه وسلم)، ومولاه زيد بن حارثة يدافع عنه ويحاول أن يتلقى عنه هذه الحجارة حتى شج عدة شجاج في رأسه.

لماذا الإسراء والمعراج؟

خرج عليه الصلاة والسلام دامي القدمين من الطائف ولكن الذي آلمه ليس الحجارة التي جرحت رجليه ولكن الكلام الذي جرح قلبه؛ ولهذا ناجى ربه هذه المناجاة، وبعث الله إليه ملك الجبال يقول: إن شئت أطبق عليهم الجبلين، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) أبى ذلك، وقال: إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.. ثم هيأ الله تعالى لرسوله هذه الرحلة، الإسراء والمعراج، ليكون ذلك تسرية وتسلية له عما قاسى، تعويضاً عما أصابه ليعلمه الله عز وجل أنه إذا كان قد أعرض عنك أهل الأرض فقد أقبل عليك أهل السماء، إذا كان هؤلاء الناس قد صدّوك فإن الله يرحب بك وإن الأنبياء يقتدون بك، ويتخذونك إماماً لهم، كان هذا تعويضاً وتكريماً للرسول (صلى الله عليه وسلم) منه عز وجل، وتهيئة له للمرحلة القادمة، فإنه بعد سنوات قيل إنها ثلاث سنوات وقيل ثمانية عشر شهراً (لا يعلم بالضبط الوقت الذي أسري فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم) إنما كان قبل الهجرة يقيناً، كانت الهجرة وكان الإسراء والمعراج إعداداً لما بعد الهجرة، ما بعد الهجرة حياة جهاد ونضال مسلح، سيواجه (صلى الله عليه وسلم) العرب جميعاً، سيرميه العرب عن قوس واحدة، ستقف الجبهات المتعددة ضد دعوته العالمية، الجبهة الوثنية في جزيرة العرب، والجبهة الوثنية المجوسية من عباد النار والجبهة اليهودية المحرفة لما أنزل الله والغادرة التي لا ترقب في مؤمن ذمة، والجبهة النصرانية التي حرفت الإنجيل والتي خلطت التوحيد بالوثنية، والتي تتمثل في دولة الروم البيزنطية.

 كان لا بد أن يتهيأ (صلى الله عليه وسلم) لهذه المرحلة الضخمة المقبلة ومواجهة كل هذه الجبهات، بهذا العدد القليل وهذه العدة الضئيلة، فأراد الله أن يريه من آياته في الأرض وآياته في السماء.. قال الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} حتى يرى آيات الله في هذا الكون وفي السماء أيضاً كما قال الله تعالى في سورة النجم التي أشار فيها إلى المعراج: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى ما زاغ البصر وما طغى}.

أراد الله أن يريه من هذه الآيات الكبرى حتى يقوى قلبه ويصلب عوده، وتشتد إرادته في مواجهة الكفر بأنواعه وضلالاته، كما فعل الله تعالى مع موسى عليه السلام، حينما أراد أن يبعثه إلى فرعون، هذا الطاغية الجبار المتأله في الأرض الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى، ما علمت لكم من إله غيري. عندما أراد الله أن يبعث موسى إلى فرعون، أراه من آياته ليقوى قلبه، فلا يخاف فرعون ولا يتزلزل أمامه، حينما ناجى الله عز وجل، وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى* قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى* فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى* قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى* وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى* لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}، هذا هو السر، لنريك من آياتنا الكبرى، فإذا علمت أنك تركن إلى ركن ركين، وتعتصم بحصن حصين، وتتمسك بحبل متين؛ فلا تخاف عدواً هكذا فعل الله مع موسى، وهكذا فعل الله مع محمد (صلى الله عليه وسلم)، أراه من آياته في الأرض ومن آياته في السماء، الآيات الكبرى ليستعد للمرحلة القادمة.

 

رحلة الاسراء

جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ﷺ في تلك الليلة، وهو متوسّد في حجر إسماعيل عند الكعبة، فأيقظه لتبدأ هذه الرحلة العظيمة، وكان مع جبريل عليه السلام دابّة “البراق”: (حجمها فوق الحمار ودون البغل، أما سرعتها فكانت تضع رجلها عند منتهى بصرها)، فرقى رسول الله ﷺ البراق، وانطلق بصحبة جبريل عليه السلام إلى بيت المقدس.

لما دخل النبي ﷺ وجد اجتماعًا هو أعظم اجتماع جرى على ظهر الأرض، فقد أحيا الله الأنبياء والمرسلين،

سأل أبو ذر -رضي الله عنه- النبي ﷺ فقال: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: (124) ألفًا، قال: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: (313) جم غفير، فهذه الأعداد الهائلة من الأنبياء والمرسلين بعثت إلى الحياة من جديد، ولم تجتمع إلا في ذلك المكان الطاهر، فأي مكان في الدنيا شرف كما شرفت القدس؟!

وصلى الأنبياء والمرسلون جميعًا في هذا المكان الذي فرّط به المسلمون اليوم، كان إمامهم المصطفى المختار محمد بن عبد الله عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، فكانت أعظم صلاة في التاريخ، بأعظم إمام وأعظم مأمومين.

بعد هذه الصلاة المهيبة جاء جبريل عليه السلام بإناءين: (إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر)، فاختار النبي ﷺ الإناء الذي فيه اللبن، فقال له جبريل: (الحمد لله الذي هداك للفطرة)، هديت وهديت أمتك، وهذه كانت أول إشارة لقبح الخمر، ورسول الله ﷺ لم يشربها لا في جاهلية ولا في إسلام.

 

رحلة المعراج

صعد النبي ﷺ مع جبريل عليه السلام إلى السماء الدنيا فإذا هي دخان، فطلب جبريل الإذن فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: معي محمد، ففتح الباب وقيل: لم أؤمر أن أفتح لغيره، فدخل وشاهد الملائكة وعجائب خلق الله فيها، ورأى فيها رجلًا طويلًا -ستون ذراعًا في السماء- وحوله سواد عظيم، فإذا التفت إلى يمينه ضحك، وإذا التفت إلى شماله بكى، فتعجّب رسول الله ﷺ وسأل جبريل، فقال: هذا أبوك آدم وذريته، فعلى يمينه أهل الجنة وعلى شماله أهل النار.

 

ماذا رأى الرسول في السموات السبع ؟

رأى أناسًا يسبحون في نهر من دم، ويسبحون إلى الشاطئ فيفتحوا أفواههم فتلقمهم الملائكة الحجارة فتدميهم، ثم يسبحون ويعودون، فسأل جبريل عن ذلك فقال: هؤلاء أكلة مال اليتامى، ورأى رجالًا لهم بطونًا كبيرة مستلقين على الأرض يطؤهم آل فرعون، فقال النبي ﷺ: «يا جبريل، ما هؤلاء؟!»، قال: هؤلاء أكلة الربا، ثم رأى النبي ﷺ قومًا معهم طعام خبيث نتن ومعهم طعام لذيذ مغري، فكانوا يتركون الطعام اللذيذ ويأكلون الخبيث النتن، فتعجّب النبي ﷺ وسأل جبريل فقال: هؤلاء الزناة.

بعد ذلك صعد النبي ﷺ مع جبريل عليه السلام إلى السماء الثانية، وفيها التقى بنبيين كريمين: عيسى ويحيى عليهما السلام، يصف النبي ﷺ عيسى فيقول: (رأيته أحمر، ليس بالطويل ولا بالقصير، كثير الخيلان -الشامة، إذا طأطأ رأسه تخال الماء ينزل منه)، ثم صعد إلى السماء الثالثة فرأى يوسف عليه السلام، فلم ير رسول الله ﷺ أجمل منه فقال: رأيته أوتي شطر الجمال.

وصعد رسول الله ﷺ إلى السماء الرابعة فالخامسة، فرأى فيها هارون عليه السلام شيخًا جليلًا، ثم صعد إلى السماء السادسة فرأى موسى عليه السلام، فقال: «رأيته طويلًا أسمر كأنه من “أسد شنوءة” -قبيلة من السمر في الجزيرة-، خفيف اللحم، أقنى الأنف -الأنف العربي المرتفع من الوسط-».

ثم صعد إلى السماء السابعة فرأى فيها “البيت المعمور” كعبة أهل السماء، يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إلى يوم القيامة، ووجد النبي ﷺ عند “البيت المعمور” رجلًا مسندًا ظهره إليه، يقول عنه ﷺ: «هو أشبه الناس بصاحبكم (شبيه النبي ﷺ) فقلت: يا جبريل، من هذا؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم عليه السلام».

كان النبي ﷺ يرى هؤلاء الأنبياء فيأتونه ويسلمون عليه ويحدثونه، وفي أطراف السماء السابعة رأى جبريل مرة أخرى على هيئته الملائكية الحقيقية كما رآه يوم بعث في غار حراء {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (14) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} [سورة النجم]، ثم وصل مع جبريل إلى موطن لم يصله بشر ولا ملك فالتفت إلى جبريل عليه السلام فإذا هو كالحصير البالي من خشية الله، ثم توقف جبريل وقال: (يا محمد تقدم، فو الله لو تقدمت خطوة لاحترقت).

فتقدم النبي ﷺ بكرامة الله تعالى له إلى “سدرة المنتهى”، ويصفها فيقول: «أوراقها كآذان الفيلة، وثمارها كالأباريق، فبينما أنا كذلك إذ تغشّاها من نور الله من تغشى، فتغيرت وصار حواليها كالفراش من الذهب، فصارت من الحسن والجمال ما لا يستطيع بشر أن يصفه»، فعجز لسان أفصح البشر عن وصفها من الحسن {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (17) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (18) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.

 

 لقاء حبيب رب العالمين بخالق الأكوان جلّ علاه:

وفي هذا المقام الرفيع تحدث النبي ﷺ إلى رب العالمين مباشرة ليس بينهما ترجمان، وعند هذه المنزلة السامية فرض الله على أمة النبي ﷺ الصلاة إظهارًا لمكانتها، لذلك كان النبي ﷺ يحث على الصلاة ويقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»، وكانت أول ما فرضت خمسين صلاة، فلم يزل رسول الله ﷺ يأخذ بنصيحة نبي الله موسى عليه السلام ويسأل المولى التخفيف حتى صارت: (خمسًا في العدد، وخمسين في الأجر).

بعد هذا اللقاء العظيم عاد النبي ﷺ إلى بيت المقدس، ومنه عاد إلى مكة المكرمة، وفي الطريق رأى قافلة سبقهم بعير له فأرشدهم إلى مكانه، كل هذه الأحداث كانت في جزء من الليل فقد غادر ليلًا وعاد قبل الفجر.

 

أحداث ما بعد الاسراء والمعراج

عند صباح اليوم الثاني جلس النبي ﷺ عند الكعبة يسترجع ما مرّ به، فجاءه أبو جهل واستغرب من حاله فجلس إليه يسأله، فأخبره رسول الله ﷺ أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع، فتبسم وأسرع يجمع الناس يخبرهم أن كذب محمد -ﷺ- قد ظهر، فتأثر الناس وجعلوا يذبون النبي ﷺ حتى من قد آمن منهم، فـأسرع رجل إلى أبي بكر الصديق يخبره بالخبر فقال: (لئن قال ذلك فقد صدق).

ثم أتى أبو بكر فرأى قريش تدعوا الناس إلى سماع النبي ﷺ ليكذبوه، فقال بعضهم: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة؟ ونحن نقطع أكباد الإبل إليها شهرًا؟! فقال أبو بكر: فما يعجبكم من ذلك؟! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعةٍ من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.

ثم أقبل يريد إظهار صدق النبي ﷺ فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال نعم، قال يا نبي الله صفه لنا؟ فإني قد جئته – فقال رسول الله فرفع لي حتى نظرت إليه – فجعل رسول الله ﷺ يصفه، ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، فكان كلما وصف له منه شيئًا، قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله، وجعل الناس يسألونه عن التفاصيل الدقيقة ورسول الله ﷺ يجيبهم، حتى إذا انتهى قال ﷺ لأبي بكر: «وأنت يا أبا بكر: الصديق»، فسماه يومئذ الصديق.

ثم حاججهم رسول الله ﷺ فأخبرهم عن القافلة التي رأى في عودته، ووصف لهم الجمل الذي يتقدمها وزينته وحمولته، ثم أخبرهم أنها تصل إليهم بعد ثلاثة أيام، وفي اليوم الموعود اجتمعت قريش وجاءت القافلة على الوصف الذي ذكره رسول الله ﷺ، ولما سألوهم عن أحوالهم أخبروهم بالبعير الذي سبق القافلة وبالصوت الذي دلهم على مكانه.

بشارة للمسلمين

هكذا ينبغي أن يعي المسلمون أهمية القدس في تاريخهم وأهمية المسجد الأقصى في دينهم، وفي عقيدتهم وفي حياتهم، ومن أجل هذا حرص المسلمون طوال التاريخ أن يظل هذا المسجد بأيديهم. وحينما احتل الصليبيون المسجد الأقصى، حينما جاءوا إلى فلسطين بقضهم وقضيضهم وثالوثهم وصليبهم، جاءوا من أوروبا، حروب الفرنجة أو كما يسمونها الحروب الصليبية، جاء هؤلاء وأقاموا لهم ممالك وإمارات، في فلسطين واحتلوا المسجد الأقصى، هيأ الله من أبناء الإسلام، ومن قادة المسلمين من نذروا حياتهم لتحرير هذا المسجد، وكان هؤلاء القادة من غير العرب، بدأ ذلك بعماد الدين زنكي القائد العظيم، وبابنه الشهيد نور الدين محمود، الذي يلقب بالشهيد مع أنه لم يستشهد، ولكنه عاش حياته تائقاً للشهادة في سبيل الله، وكان يشبه بالخلفاء الراشدين بعدله وزهده وحسن سياسته، وتلميذ نور الدين محمود صلاح الدين الأيوبي البطل الكردي الذي حقق الله على يديه النصر، في معركة حطّين ومعركة فتح بيت المقدس.. فتح بيت المقدس ولم يرق فيها من الدماء إلا بقدر الضرورة، بينما حينما دخلها الصليبيون غاص الناس في الدماء إلى الركب، قتلت الآلاف وعشرات الآلاف، ولكن هذا هو الإسلام.

المكان لا المبنى

إن المسجد الأقصى حينما كان الإسراء لم يكن هناك مسجد مشيد، كان هناك مكان للمسجد، كما قال تعالى {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} فقوله إلى المسجد الأقصى بشارة بأن المكان سيتحول إلى مسجد وهو أقصى بالنسبة إلى أهل الحجاز، ومعنى هذا أن الإسلام سيمتد وسيأخذ هذا المكان الذي تسيطر عليه الإمبراطورية الرومية، كان هذا بشارة للمسلمين أن دينهم سيظهر وأن دولتهم ستتسع، وأن ملكهم سيمتد وسيكون هناك مسجد أقصى، وقد كان.. دخل المسلمون القدس في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، أبى بطريرك القدس سيفرنيوس أن يسلم مفتاح المدينة إلا لخليفة المسلمين، أبى أن يسلمها للقادة العسكريين، قال: أريد الخليفة بنفسه، وجاء عمر في رحلة تاريخية شهيرة مثيرة وتسلم مفتاح المدينة، وكتب عهداً الذي يسمى “العهدة العمرية”، عهداً لهؤلاء أن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ومعابدهم وشعائرهم وكل ما يحرص الناس عليه، وشرط اشترطوه ألا يساكنهم فيها أحد من اليهود. وحينما دخل المسلمون إلى القدس لم يكن فيها يهودي واحد فقد أزال الرومان من سنة 135 ميلادية الوجود اليهودي تماماً؛ ولذلك لم يأخذ المسلمون القدس من اليهود أو من الإسرائيليين إنما أخذوها من الرومان، وقبل ذلك زالت الدولة اليهودية على يد البابليين، وبعد ذلك زال الوجود اليهودي نفسه على يد الرومان وزالت الدولة اليهودية منذ أكثر من 25 قرناً، سنة 486 قبل الميلاد، والآن اليهود يقولون: نحن أصحاب القدس ولنا حق تاريخي.. فأين هذا الحق؟ نحن أصحاب هذا الحق، القدس سكنها العرب، من القديم، اليبوسيون والكنعانيون قبل الميلاد بثلاثين قرناً، ثم أخذها المسلمون من أربعة عشر قرناً، أو يزيد.. فأين حقكم؟ وأين ما تدعون؟ إنه لا حق لهؤلاء، ولكنه حق الحديد والنار، تكلم السيف فاسكت أيها القلم، منطق القوة وليس قوة المنطق، نحن نرفض هذا المنطق ونتمسك بحقنا، نتمسك بالمسجد الأقصى ولا نفرط فيه، إذا فرطنا فيه فقد فرطنا في قبلتنا الأولى، فرطنا في أرض الإسراء والمعراج، فرطنا في ثالث المسجدين المعظمين، فرطنا في ديننا ودنيانا وكرامتنا وحقوقنا ولن نفرط في ذلك أبداً، سنظل نقاوم ونجاهد.. إسرائيل تريد أن ترغمنا على الأمر الواقع، هي في كل يوم تفعل شيئاً تقيم مستوطنات وتزيل بيوتاً، تهدد الناس في القدس، تخرجهم ولا تسمح لهم بالعودة، لا تسمح لأحد أن يبني بيتاً.. هكذا كل يوم مستوطنة؛ ذلك لترغمنا أن نرضى بالأمر الواقع، وهم يقولون الآن خذوا حجارة المسجد الأقصى، سنرقمها لكم، انقلوها إلى المملكة السعودية، وابنوا ما شئتم من مسجد هناك، ومستعدون أن ندفع لكم النفقات، كأن الحجارة هي المقدسة، المكان هو الذي قدسه الله، وليس الحجارة، يمكن أن نأتي بأي حجارة إنما القدسية لهذا المكان الذي بارك الله حوله، في هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، لن نقبل أن يضيع المسجد الأقصى، لن نقبل أبداً ضياع المسجد الأقصى.

المسجد الأقصى ملك لجميع المسلمين

كل مسلم عليه واجب نحو هذا المسجد الأمر لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم، كل المسلمين مسؤولون عن القدس وعن المسجد الأقصى، أنا قلت لبعض الإخوة الفلسطينيين لو أنكم تقاعستم وتخاذلتم واستسلمتم وهزمتم نفسياً وسلمتم المسجد الأقصى، لوجب علينا أن نقاتلكم كما نقاتل اليهود، دفاعاً عن حرماتنا وعن مقدساتنا، وعن قدسنا وعن مسجدنا الأقصى، المسجد الأقصى ليس ملكاً للفلسطينيين حتى يقول بعض الناس هل أنتم ملكيون أكثر من الملك، هل أنتم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين؟ نعم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، وقدسيون أكثر من القدسيين، وأقصويون أكثر من الأقصويين، هذا مسجدنا، هذه حرماتنا، هذه كرامة أمتنا، هذه عقيدتنا سنظل نوعي المسلمين، ونقف ضد هذا التهويد للأقصى ومقدساته. وقد أراد الله تعالى أن يربط هذا المسجد بهذه الذكرى لنظل في كل عام كلما جاءت ذكرى الإسراء في أواخر رجب ويحتفل بها المسلمون في كل مكان ذكرتنا بهذا الأمر الجلل، هذه القضية الخطيرة، هذه القضية المقدسة.. لا يمكن أيها الإخوة أن نفرط فيها، إذا كان اليهود قد حلموا بإقامة دولة واستطاعوا أن يحققوا حلمهم، فعلينا أن نحلم نحن بأننا لا يمكن أن نفرط في مسجدنا حتى وإن رأينا الواقع المر يستسلم هذا الاستسلام، وينهزم هذا الانهزام، لا يجوز لنا أن نسير في ركابه منهزمين. يجب أن نعتقد أن الله تبارك وتعالى معنا وأن الله ناصرنا وأنه مظهر دينه على الدين كله، وأنه ناصر الفئة المؤمنة، وكما روى الإمام أحمد والطبراني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس.