القصور الأموية
نشب نزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان على الخلافة، انتصر في النهاية بنو أمية، وأقاموا سنة 661م أول دولة يرث فيها الخلفاء السلطة عن آبائهم، كما انهم نقلوا عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى دمشق. أعلن معاوية بن أبي سفيان نفسه خليفة، واستهل عهده بالذهاب إلى بيت المقدس، حيث تمت البيعة له في العام 661م، وظهر اهتمام معاوية بالقدس من خلال ترميم سورها والعناية ببساتينها وغاباتها، ولعبد الملك بن مروان وابنه الوليد أعمال خالدة في القدس ما زال بعضها قائما إلى اليوم، فبناء المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة هما من أعمال عبد الملك والوليد، وقد رصد عبد الملك لبناء قبة الصخرة وحدها خراج مصر سبع سنين، كما عبّد طريق القدس إلى الشام، وطريق القدس إلى الرملة. أما الوليد، فقد بويع بالخلافة ـ فيما يقال ـ على سطح الصخرة المقدسة، وواصل عمل أبيه في بناء المسجد الأقصى حتى أتمه، ورتب له الخدم والرعاة لصيانته.
القصور الأموية في القدس:
بنى عبد الملك وابنه الوليد قصورا في القدس، إلا أن زلزالا شديدا دمر هذه القصور.
قامت القصور الأموية وفق مبدأ موحد وشكل معماري متماثل، فالقصر الأموي يمتلك التفاصيل نفسها التي تبدأ من السور المحيط بالمبنى ثم الصحن الداخلي الذي تشرف عليه أروقة تعقبها غرف في طبقة واحدة أو طبقتين، ويتخذ السور الخارجي طابع التحصين بعيداً عن الفتحات والزخارف.
الفن المعماري الأموي هو الفن الذي انسجم أولاً مع التقاليد والمناخ ومع ضرورات الوظيفة وشروطها، ويتجلى بهاء الفن والزخرفة بالآثار المكتشفة في مناطق هذه القصور، ففي القصور الثلاثة في القدس التي بناها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أو قصور ابنه الخليفة الوليد بن عبد الملك نجد أن كلاً منها محاط بجدران خارجية ذات أبراج دائرية في الزوايا وأبراج نصف دائرية في منتصف كل ضلع.
وقد كشفت التنقيبات عن أجزاء من هذه القصور المتهدمة تصل إلى إرتفاع أربعة أمتار، ولوحظ أن أسوار القصور يفصلها عن الحرم شارع عرضه 430 سم، كان مبلطاً ببلاط صقيل بأبعاد 25×35 سم و60×70سم. وآثار هذه القصور الثلاثة تدل على وجود أحدها جنوب سور الحرم والثاني غربه، أما القصر جنوب الحرم كبير أبعاده 48×96م، وله باب من جهة الشرق وآخر من الغرب، وفي الوسط فناء محاط بأروقة وراءها غرف واسعة يبلغ طولها 17م أو 20م، ولقد عُثر في هذا الموقع على أعمدة وتيجان وقطع من الدرابزين، كما عثر على زخارف ملونة في الجناح الغربي.. أما المبنى الآخر فهو أصغر مساحة، ولكنه يشابهه في المخطط، والمبنى الثالث أيضاً مشابه في مواد إنشائه وطرازه وفسيفسائه للبنائين السابقين.
أما قصر الخربة الذي بناه الوليد بن عبد الملك، فهو بناء مساحته 73×67م، تقوم فيه زوايا وأبراج مستديرة، وله في الوسط من الناحية الشرقية باب ضخم يحيط به برجان من الجانبين، ويمتاز هذا الباب بقبته المربعة التي يقوم في كل من جانبيها نصف برج، وكانت القبة مفتوحة. كان للقصر قاعة مزينة بتيجان مرمرية، ويلي ذلك البهو العظيم ذو الأجنحة الثلاثة، وهو مربع ضلعه 20م، ولقد كسيت أرضه وجدرانه إلى ارتفاع مترين بالمرمر، وفي أعلى الجدران كانت الفسيفساء الزجاجية والنباتية، والبهو كان مسقوفاً بالقرميد المائل، ويجاور البهو خمس حجرات فرشت بالفسيفساء الحجرية بلون أسود وأبيض أو أحمر فاتح وأحمر قاتم أو أصفر مع البني.
ولا يختلف قصر المفجر الذي بناه هشام بن عبد الملك عن باقي القصور الأموية في مخططه وأبعاده، فهو شبه مربع وضلعه 64.50م. وفي أركانه الأربعة أبراج دائرية مدعّمة، وفي منتصف الجدارين الشمالي والغربي أبراج نصف دائرية، وفي الجنوب برج رباعي يضم محراباً لعله كان مئذنة، كان صحن القصر واسعاً 28×29)م).
ويحيط بالصحن أروقة فوقها شرفات الطبقة العليا، وأرض الصحن مبلطة ببلاط أسود وتحته مصارف للمياه حسنة التنظيم.
إمتاز هذا القصر بزخارفه الفسيفسائية المهمة جداً، والمؤلفة من مكعبات حجرية ملونة تشكل صوراً تشبيهية أو زخرفية رائعة التصميم والتنفيذ.
كانت المنحوتات الحجرية لرجال ونساء كاملة أو نصفية موجودة في الداخل وتعتمد على دعائم الأقواس الجانبية، وكانت تقوم بين دعائم هذه الأقواس تماثيل لأشخاص ذكور كانوا يحملون أوراق الخرشوف فوق صف من الخراف. ويتألف عنق القبة من اثني عشر تجويفاً محرابياً يقف في كل منها تمثال ذكر أو أنثى متتاليين، وتضم واجهة المدخل محرابين عثر في أحدهما على تمثال يعتقد أنه للخليفة هشام بن عبد الملك، وذلك بمقارنته مع تمثال هشام في قصر الحير الغرب، وثمة تماثيل كانت تملأ المحاريب القائمة على جدران القاعة، وهذه التماثيل أحد أوجه أهمية قصر المفجر.
لا تزال سلطات الاحتلال الإسرائيلي تُواصل مساعيها لطمس معالم المسجد الأقصى المبارك الإسلامية العربية، بما فيها منطقة القصور الأموية، وتزوير هويتها وتاريخها العريق، وسرقة آثارها وحجارتها التاريخية، بغية فرض رواية توراتية مزعومة، والتحضير لإقامة 'الهيكل' المزعوم.
وبحجارتها القديمة وأبنيتها العريقة التي شيدها الأمويون، تمثل القصور الأموية إرثًا إسلاميًا عربيًا، ورمزًا من رموز الحضارة الإسلامية في فلسطين، مما يدحض مزاعم الاحتلال باكتشافه آثار وموجودات يهودية أثرية بالمنطقة خلال عمليات الحفريات التي أجراها على مدار السنوات الماضية
تتعرض القصور الأموية اليوم لحملة تهويد ممنهجة، فقد حولتها بلدية الاحتلال لمزار سياحي، وافتتح رئيس بلدية القدس الإسرائيلية نير بركات الأسبوع الماضي ما سماها "مطاهر" في تلك القصور، وفي المكان ينتظر مرشدون سياحيون يهود ليرافقوا الوفود السياحية ويسردوا للزوار الرواية المزورة لتاريخ المكان.
وبُينت القصور الأموية في مرحلة الفتح الإسلامي المبكر كدار للإمارة، وقصور للخلفاء المسلمين ومؤسسات إسلامية لإدارة شؤون القدس والمسجد الأقصى وفلسطين قبل حوالي ألف وأربعمائة عام.
وفي عام 1967، سيطر الاحتلال على هذه المنطقة، وحاول أن يُصادرها بحجة ما يسمى 'الحوض المقدس'، كي يخنق المسجد الأقصى من المنطقة الجنوبية والغربية، كما حولها إلى متاحف ومزارات ومظاهر تلمودية، لسرد الرواية التوراتية التلمودية.
وتزعم المنظمات الاستيطانية أن القصور مبنية في منطقة 'الحوض المقدس' التابع 'للهيكل'، لكن الحفريات التي استمرت أكثر من 40 عامًا بمشاركة علماء آثار يهود، أثبتت أن المباني هي قصور أموية ودار إمارة، ولا دليل يشير إلى علاقتها 'بالهيكل' أو غيره.