الهوسسبيس
الهوسبيس بالقدس.. نزل نمساوي فمستشفى ففندق
عندما تسير في شوارع البلدة القديمة من مدينة القدس، أو محيط أسوارها العتيقة، تصادفك مبان ضخمة، ترفرف عليها أعلام أجنبية، في غالبيتها تعود لدول أوروبية. المباني التي تستخدم حاليا كمتاحف أو كنائس أو مكتبات أو نُزُل إقامة ومعاهد آثار، تختصر حقب زمنية، مرت على مدينة القدس. وكانت الدولة العثمانية اظهرت تسامحا مع الدول الغربية من خلال فرمانات صدرت عن السلاطين العثمانين مكنت هذه الدول من الحفاظ على ممتلكاتها وتسيير امور رعاياها بالقدس وتقديم خدمات صحية وتعليمية واجتماعية لسكان القدس. وفي وسط الحي الإسلامي في البلدة القديمة، يبرز مبنى ضخم، يرفرف عليه علم النمسا وآخر للاتحاد الأوروبي. ويحمل المبنى اسم "دار الضيافة النمساوي" او "الهوسبيس"، ويعود إلى العام 1854، حينما أقيم كمؤسسة كنسية على يد رئيس أساقفة فيينا آنذاك.
عرفت القدس بعد حرب القرم في النصف الثاني للقرن التاسع تغيُّرات عكست الوجود الأوروبي (الفرنسي والنمساوي والبريطاني إلخ) المتزايد. وفي هذا السياق، اشترت فيينا قطعة من الأرض في القدس بنت عليها "النزل النمساوي" للزوّار والحجّاج الذين يتردّدون على القدس، وهو ما اشتُهر لاحقاً باسم "الهوسبيس".
وافتتح عام 1863 نزلا للزوار النمساويين، وأقام به الإمبراطور فرانز جوزيف الذي أمر ببنائه وتلاه نجله رودلف، ونشطت حينئذ حركة الزوار قبل أن تتوقف مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.
ومع مطلع القرن العشرين وانتشار الصحافة بعد 1908، عرفت القدس افتتاح مقاه جديدة تعبّر عن التطوُّر الثقافي والاجتماعي الجديد، ومن هذه كانت "قهوة الصعاليك" عند باب الخليل، والتي أسّسها الكاتب المعروف خليل السكاكيني (1878 - 1953) وتحوّلت إلى منتدى لضيوفه من فلسطين وخارجها، تُناقَش فيها الموضوعات الفكرية والسياسية، بل غدت عنواناً مثل "مطعم فيصل" في بيروت في جوار الجامعة الأميركية.
افتتح عارف الباسطي "مقهى الهوسبيس" في القدس عام 1927
وضمن ازدياد الارتياد على المقاهي، قام عارف الباسطي عام 1927 بافتتاح مقهى جديد عُرف باسم "مقهى الهوسبيس" لكونه يقع في جواره. ومع شهرة هذا المقهى، إلّا أنّ الأوضاع في القدس بعد 1967 حملت تغيُّرات جديدة تحوّل فيها هذا المقهى إلى "مطعم الباسطي" الذي كان أوّل مطعم يسوّق البيتزا الإيطالية في القدس الشرقية.
خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت بريطانيا النزل معسكرا لاعتقال الكهنة النمساويين والألمان والإيطاليين. وفي عام 1948 قررت وزارة الصحة البريطانية تحويل النزل لمستشفى عسكري، لكنه تحوّل في العام ذاته لمستشفى مدني بعد تولي المملكة الأردنية إدارة القدس الشرقية، وساهمت الراهبات النمساويات في الاعتناء بالمرضى، واشتهر النزل حينها باسم "الهوسبيس".
بقي النزل المستشفى الوحيد داخل أسوار القدس حتى عام 1985 حيث أُعيد للنمسا مجددا، فقررت إغلاقه للترميم وأُعيد افتتاحه ليستأنف دوره فندقا سياحيا يستقبل النزلاء من مختلف أرجاء المعمورة.
يتكون المبنى من أربعة طوابق تحتوي على أربعين غرفة تطل على البلدة القديمة والأماكن المقدسة بها، بالإضافة للكنيسة النمساوية والمركز الثقافي النمساوي. وما أن يدخل الزائر للمكان حتى يختفي تدريجيا ضجيج أزقة البلدة القديمة وشوارعها، إذ يحيط بالمبنى بستان واسع يُطلق عليه "واحة السلام" التي يكاد ينسى من يدخلها أنه بالبلدة القديمة بالقدس ويذكّره بذلك صوت أذان المسجد الأقصى وأجراس الكنائس المحيطة بالمكان.
توجد في بستان الهوسبيس أيضا ثلاث آبار تاريخية اعتُمد عليها بشكل أساسي مصدرا للمياه قديما، كما يضم المركز الثقافي النمساوي مخطوطات تاريخية هامة تمّ الاحتفاظ بها بمكتبة ضخمة خوفا عليها من الاندثار.
خدمة بدل الجيش
لإضافة للسياح يستقبل النزل منذ إعادة افتتاحه الشبان النمساويين ممن لا يرغبون في تأدية الخدمة العسكرية، إذ يقيمون بالهوسبيس لمدة عام كامل يقومون خلاله بخدمة المكان مقابل إعفائهم من خدمة العلم في النمسا.
ولكن على بعد خطوات منه، بدأت بعد سنوات معركة جديدة بين النمسا والاحتلال الإسرائيلي حول "الهوسبيس"؛ فقد حوّلت السلطات الأردنية الجديدة - إبان حكمها للضفة الغربية - هذا المبنى التاريخي إلى مستشفى باسم "الهوسبيس"، وبقي المستشفى الحكوميَّ الوحيد حتى 1967، ولكن السلطات الإسرائيلية أقفلته في 1982 بحجّة عدم مراعاته للشروط الصحية لكي تضع اليد عليه لأغراض أُخرى. فتدخّلت النمسا بقوّة وتمكّنت من استرداد المبنى عام 1985 وجلبت مهندسين من ألمانيا وفرنسا ليرمموه ويعيدونه كما كان دون العبث باللوحات الفسيفسائية الفنية واللمسات التاريخية النمساوية التي ميزت المكان وحوّلته إلى فندق سياحي يتمّيز بإطلالته على القدس القديمة والأماكن المقدسة.
يشبه الطراز المعماري في مبنى النزل النمساوي للعائلة المقدسة "الهوسبيس" نمط القصور المحيطة بشوارع مركز المدينة في فيينا، ويشكل سطح المبنى المطل على البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها نقطة انطلاق لاستكشاف معالم هذه المدينة التاريخية العريقة.
وفي هذا المبنى/ الفندق افتتحت "مقهى فيينا" الذي نقل تقاليد فيينا القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلى قلب القدس، ممّا يجعل الزبون يشعر فعلاً أنه في قلب فيينا وفي قلب القدس في آن، وفي أنّ ما يدفعه من دولارات كثيرة في الفاتورة ليست لأجل القهوة التي شربها، بل لأجل الوقت الجميل الذي قضاه والمكان الفريد الذي استرخي فيه!